أبعاد احتضان المغرب للألعاب الإفريقية

أبعاد احتضان المغرب للألعاب الإفريقية
السبت 24 غشت 2019 - 08:36

الألعاب الإفريقية تمنح الرياضة تأشيرة التموقع ضمن أقطاب النموذج التنموي المنشود

لا يختلف اثنان على تجاوز المجال الرياضي للمنطق الكلاسيكي المنحصر في تزجية الوقت واحتضان الطاقات الواعدة والبحث عن تحقيق الإنجازات والألقاب، بما يعكسه من تمثل للذات الفردية في نسق الذات الجماعية، كجزء لا يتجزأ من الرأسمال اللامادي، إلى قطب إستراتيجي له نصيب من الأثر على الرأسمال المادي المنتج للثروة؛ وهذا ما جعله يحظى باهتمام صناع القرار في مختلف الأمم والدول بمسارعتهم وتنافسهم على نيل شرف احتضان التظاهرات والمنافسات ذات البعد القاري والدولي، لما لها من تأثير إيجابي على الدخل القومي لأوطانهم من خلال الرساميل المُستثمَرة في هذا الجانب، وما تخلفه من آثار بالغة الأهمية على مختلف مناحي الحياة.

وإيمانا بهذا التوجه، نلفي أن المغرب في سعي محمود لا يتوانى عن استثمار أي فرصة لاحتضان مثل هكذا تظاهرات. وفي السياق ذاته، شهد يوم 19 غشت الجاري بمركب الأمير مولاي عبدالله بالرباط افتتاح الدورة 12 للألعاب الإفريقية، الذي عرف عروضا ولوحات استعراضية مغربية وإفريقية تعكس الإيمان بالتنوع الثقافي لـ”ماما أفريقيا”، ألهبت جنبات الملعب بروعتها وأبهرت الناظرين برونقها، وتميزت في مجملها بتوسط المعلمة التاريخية صومعة حسان بشموخها ورمزيتها الضاربتين في عمق التاريخ، في إشارة إلى الافتخار بالامتداد الزمني للوطن، والذي شكل ومازال عبر تعاقب الأزمنة والأجيال الحضن الحاضن لضيوف المملكة، خصوصا الأشقاء والأصدقاء من القارة السمراء. وقد ترأس هذا الحفل الذي ينظم تحت الرعاية الملكية السامية صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وهي إشارة قوية من أعلى سلطة في البلاد إلى الاستمرار في نهج اليد الممدودة للعمق والانتماء الإفريقي.

بالفعل كان افتتاحا باهرا واستثنائيا يعكس الاستثناء المغربي. وإذا كان هذا التميز رهانا يبصم من خلاله المغرب على قدراته التنظيمية على أعلى المستويات من جهة، فإنه أكد من جهة أخرى أن البلد مازال كما كان أرضا للسلام وملتقى الحضارات، وتأكيدا لحضوره في قلب القارة السمراء، ليس فقط لموقعه الجيواستراتيجي، ولكن لكونه أضحى عنوانا للتنوع الثقافي وتوحد المصير الإفريقي.

وتأسيسا على ما سلف فإن واقع الحال يحيلنا على النظر إلى احتضان المغرب لهذا العرس الرياضي الإفريقي برؤية تتمأسس على لفيف من الأبعاد نجمل أهمها على المنوال التالي :

أولها هو البعد السياسي، الذي يعكس استمرار انخراط الدولة المغربية من أعلى سلطة إلى آخرها في إنجاح هذه الدورة، لكونها تأتي بعد عودة المغرب إلى عائلته الإفريقية، وهي فرصة ليعبر من خلالها عن مدى اعتزازه بهذه العودة القائمة في مجملها على نهجه لسياسة جنوب_جنوب بمعادلة رابح_رابح، على عكس ما يسوِّق له الأعداء من كون الهاجس المغربي قائما بالدرجة الأولى على جمع الأصوات من أجل قضية وحدته الترابية، متناسين أن التميز المغربي الذي ما فتئ يؤكده بسياسته تلك ما هو إلا تأكيد لتواجده في العمق الإفريقي قبل وبعد العودة إلى الحضن الإفريقي، بدليل تموقعه كثاني مستثمر في القارة الإفريقية، إذ لم يقتصر على الخطابات والشعارات، بل بما تم تحقيقه من إنجازات ومشاريع، وهو ما باتت مؤشراته تُـؤتي أكلها لدى أشقائه الأفارقة.

أما البعد الثاني فيتبدّى على المستوى الأمني من خلال الأجواء الآمنة التي يتوفر عليها المغرب، بعيدا عن النعرات والقلاقل والنزاعات العنيفة التي أضحت تتصدر المشهد العام لعدة دول إفريقية على الخصوص، وهذا البعد يحيلنا على البعد الثالث، وهو المرتبط بالجانب الاقتصادي؛ إذ من شأن هذا الحدث القاري أن يشجع على جذب واستجلاب الرساميل والاستثمارات الأجنبية المرتكزة أساسا على توفير ظروف الثقة، وعلى رأسها الظروف الأمنية.

أما البعد الرابع فيتمظهر في تسويق القدرات المغربية في ربح رهان تنظيم المحافل القارية والكونية، تأكيدا على ما سبقها من نجاحات في هذا الجانب، خصوصا لما أضحى يمتلكه من بنيات تحتية ومؤسسات استقبال، من فنادق وموانئ ومطارات وطرق سيارة ومواصلات ووسائل اتصال وتواصل، وملاعب متعددة التخصصات وحلبات رياضية بمعايير دولية، ومن خلالها التعريف بالمغرب كوجهة سياحية يمكن استثمار الجانب الرياضي كقناة تسويقية لها.

أما البعد الخامس لهذا الحدث القاري، والمتمثل في الشق الرياضي، فإن مؤشرات النجاح تتحدث عنها المعطيات الرقمية على المستوى الشكلي، متمثلة في عدد الدول المشاركة البالغ عددها 54 بأكثر من 5000 رياضي ورياضية في 54 نوعا رياضيا، منها 17 رياضة مؤهلة لدورة المسابقات الأولمبية التي ستحتضنها العاصمة اليابانية طوكيو عام 2020، وهي سابقة في تاريخ هذه الألعاب؛ علاوة على استقبال حوالي 2000 مسؤول من حكام ومدربين، علما أن هذه المنافسات ستشكل نقلة نوعية على مستوى البنية التحتية الرياضية للمغرب، إذ ستتحول أغلب الفضاءات إلى ملاعب أولمبية، خصوصا أنه تم تخصيص حوالي 120 مليون درهم من أجل الرفع من مستوى هذه الملاعب وتكييفها مع المعايير الأولمبية المعتمدة في هذا الجانب. هذه الأرقام وغيرها ستجعل هذه الدورة محط اهتمام من لدن مختلف أعين الأوساط الرياضية الدولية.

أما البعد السادس لهذا العرس الأسمر فهو المرتبط بالشق المواطناتي، الذي عرف انبعاث قيم المواطنة وتكريس ثقافة التطوع والفعل المدني، والمتمثل في تعبئة زهاء 2000 متطوع ومتطوعة من مختلف المؤسسات والمعاهد والمدارس الجامعية في مختلف المهام المرتبطة بالجانب التنظيمي، وهي قيم ما أحوجنا إلى إعادة إنتاجها ورسوخها لدى الرعيل الحالي، تكريسا لروح الانتماء وتقوية عُـرى ووشائج الارتباط بالوطن والافتخار بالهوية المغربية.

أما البعد السابع فهو ما يدفعنا إلى الاقتداء بالمنهج الواقعي، والتشديد على ضرورة الوقوف على مكتسبات ونقط القوة المستخلصة من تنظيم هذا الحدث لتثمينها، وتشخيص التحديات والإكراهات والانتظارات والنقائص والاختلالات لتقويمها وتشريحها بالمنظار التنموي، والعمل على تجاوزها إيمانا بمقولة “لكل عمل إذا ما تم نقصان”؛ وذلك للاستمرار في المساعي التي يبذلها المغرب في سبيل مواصلة مسار البناء والتشييد على جميع الأصعدة، ومن بينها القطاع الرياضي.

أما البعد الثامن، وعملا بثقافة الاعتراف ونبذ مبدأ التبخيس والعدمية، فإنه مع الأصداء الطيبة التي خلفتها الاحترافية والروعة والجمالية التي عرفها حفل الافتتاح، لا يسعنا إلا أن نتقدم بأجزل التشكرات لجنود الخفاء الذين ساهموا في إنجاح هذا العرس الإفريقي، على اختلاف مسؤولياتهم ومهامهم السياسية والوظيفية، ونخص بالذكر مسؤولي وأطر وزارة الشباب والرياضة وشركائها من قطاعات ومؤسسات وهيئات، آملين أن يرافق هذا التوفيق في الجانب التنظيمي بالتفوق في الجانب التنافسي.

أما البعد الشامل لكل ما سبق بسطه، وهو يتوجه في منحاه الاستشرافي إلى المستقبل المنظور؛ فتماشيا مع التوجه الملكي القائم على السعي نحو ابتداع وابتكار الطرائق والسبل الكفيلة بتخصيب وإثراء نموذج تنموي ناجح وناجع، علاوة على تشديد جلالته على تثمين وإشراك الكفاءات والنخب، فإن واقع الحال أضحى يفرض اعتماد الرياضة كقطب من أقطاب إنتاج الثروة وموقعته ضمن البراديغم التنموي المأمول، مع مرافقة هذا الاعتماد بالنخب والطاقات العالمة علميا وعمليا، والخبيرة بالمجال والكفيلة بتنزيل هذا الشق التنموي تنزيلا يتماشى والنجاعة المنشودة في هذا الجانب، خدمة للفعل الرياضي خاصة وللنسق التنموي بشكل أعم.

‫تعليقات الزوار

1
  • conardinho
    الإثنين 26 غشت 2019 - 11:40

    الحمد لله أن هناك دول شمال إفريقيا بالإضافة إلى دولة جنوب إفريقيا، تستطيع إنقاذ ماء وجه القارة، وتنظيم تظاهرات تتعثر بعض الدول في الالتزام بتنظيمها في الوقت المحدد، مما يؤثر على صورة إفريقيا، بالإضافة للمشاكل التي تعرفها الرياضة في القارة، كضعف الامكانيات التي تجعل بعض الدول تجد صعوبة في إعداد رياضييها، لا بل حتى التكلف بمصاريف مشاركتهم في التظاهرات الدولية، ناهيك على أن بعض الألعاب مازالت بعيدة على الظهور في الألعاب الإفريقية، بينما توجد في الأولمبياد، وذلك بسبب أنه لا يمكن جمع حتى ولو على الأقل ثلاث منتخبات إذا تعلق الأمر بالرياضات الجماعية، أو مجموعة من المتنافسين فيما يتعلق بالمنافسات الفردية، يكونون يستوفون المعايير وقادرين على المنافسة أبعد من المجال القاري، مما يعني أن هذ الرياضات ستبقى حكرا على الدول الغربية.

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 1

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال