لماذا تنتهي الثورات العربية في حضن العسكر؟

لماذا تنتهي الثورات العربية في حضن العسكر؟
الخميس 22 غشت 2019 - 07:51

يقتضي هذا السؤال إثبات الحالة أولا. سنأخذ بلدان الربيع العربي إذن ونفحص مصائر ثوراتها واحدة واحدة، وسنلاحظ كما ترون جميعا أنه بعد خفوت فورة القيام قد سقطت تباعا في حضن العسكر إما بشكل مباشر وفج، أو بطريقة ناعمة ارتدى فيها الجيش مسوح الديمقراطية قبل المرور إلى السلطة عبر البوابة الانتخابية.

مصر أسقطت حكم الإخوان المسلمين لتعود إلى المؤسسة العسكرية؛ ففي هذا البلد، علينا أن نتذكر أن الجيش كان هو من أسس الجمهورية، وأن الإسلاميين كانوا على الدوام معارضيه الأوحدين، لذلك استرجع الدولة منهم بعد أن انتهت الثورة في مخدعهم.

ليبيا بدورها طوحت بالعقيد، ثم أصبحت مرتعا كبيرا للمسلحين تجلس فيه طرابلس المدمرة “بانتظار” الجنرال المتقاعد حفتر…. الذي يقول للجميع بأنه يحمى الدولة من الفوضى والفتنة لكنه يحلم في الحقيقة أن يراه القذافي من قبره وهو يسوس الجماهيرية التي ما كانت ولن تكون عظمى.

أما الجزائر التي تأخر ربيعها كثيرا فيصنع فيها القايد صالح الصحو والمطر، ويحدد وهو العسكري الطاعن في السن والحكم سقف لائحة المطالب الثورية ولائحة أخرى للمتخلى عنهم من رجالات النظام حسب ما تنتهي إليه ذبذبات الشعارات في الشارع الهائج،

وكذلك السودان تمخضت فيها الثورة عن طبخة انقلاب نصف عسكري ببهارات مدنية.

موريتانيا كانت الأذكى انزاح رئيسها العسكري ديمقراطيا لعسكري آخر ارتضاه لها.

وحتى تونس أيقونة الربيع قد تتجرع نفس الدواء بطريقتها الناعمة وتنتخب رجلا بين العسكرية والمدنية؛ فوزير الدفاع الطبيب عبد الكريم الزبيدي هو الأقرب الآن إلى قصر قرطاج. وهذا ما يكاد يوحد سيناريوهات مآل الحراكات بكل بلدان الربيع.

يتعلق الأمر إذن بقاعدة عربية شبه حصرية، لا بصدفة اعتباطية تتكرر كل ربيع. فهناك ولا بد عامل كامن في الذهنية والثقافة العربيتين يحفز قدوم العسكر. ولربما أن السر يكمن في البناء السوسيولوجي والسياسي السياسي لهذه المجتمعات عشية ثوراتها. تنضاف إلى هذا عناصر أخرى تبدو حاسمة كعدم اكتمال نضج المؤسسات المدنية والسياسية داخل الدولة العربية القطرية التي تلت سايس بيكو لكي تستلم الحكم عقب الثورة. واستمرار نظرة الشعوب العربية، وخصوصا من مواطنيها غير المتحمسين للربيع إلى الجيش كمخلص وكملاذ حين تدلهم أجواء الثورة وتتلبد بغيوم الفتنة.

ثم رسوخ الهاجس الأمني وتجذره لدى الدولة العميقة؛ وضمنها المؤسسة العسكرية التي لم تعد الآن معنية بالتصدي للعدو الخارجي فقط، بل أصبحت أيضا تحارب العدو الداخلي المتمثل في الإرهاب مما أصبح يغريها بإمكانية لعب دور في هذا الداخل المشتعل و يقنعها بالتالي بشرعية التدخل في السياسة. ثم تأتي العقيدة العسكرية للجيوش التي تعلمت في العالم العربي أن تفرق في اللحظات المفصلية للتاريخ بين النظام الذي يمكن أن يسقط والدولة التي لا يد أن تبقى مما يمنح مسوغا نفسيا لهذا لعسكر لكي يكون له قول وفعل في مسار الثورة.

لننتبه الآن إلى أن الدول المعنية بهذه الملاحظة كلها جمهوريات عربية، وأن العسكر قد حاز السلطة فيها بعد أن حرم منها الإسلاميين. كان ذلك بالغصب أحيانا، وبالتدافع الديمقراطي أو شبه الديمقراطي أحيانا أخرى. وفي الحالتين يكون هناك ملل مسبق من الإسلاميين أو شعور عارم بلا جدوى حكمهم في تحقيق أحلام الثورة الوردية.

واضح أن إسقاط الرئيس لا يقود حتما للدولة المدنية التي في مخيال الثوار؛ فالثورة بطبعها تنشد الحرية والكرامة. لكن ثوراتنا لم تنجح في الإمساك بالمدنية، لأنها كانت ثورات جارفة حماسية مشوبة كثيرا بالعاطفة وروح التضحية… ثورات كان أغلبها غير مهيكل ودون قيادة واضحة أو نخبة مفكرة وكان لا يجيب عن سؤال ما بعد الثورة.

ولذلك، كان من المتوقع تحليليا أن تدلف إلى الحكم القوة الاجتماعية الوحيدة المهيكلة التي عرفت كيف تصل إلى الكتف ولم تعرف كيف تأكله: الإخوان المسلمون.

وقد جرى أن الجماهير العربية اكتشفت بعد الثورة أنها انتقلت من حكم مغلق إلى آخر أكثر إغلاقا، ومن شمولية تتظاهر بالديمقراطية إلى أخرى تضاهيها ترفع شعار الإسلام هو الحل. لتكتشف أنها كانت ضحية برامج طوباوية لا تقدر على تغير واقع شعوب تعاني أزمة تطلعات للعيش الرغيد كالمجتمعات الأخرى…. عيش شاهدته وخبرته عبر منصات التواصل الاجتماعي.

وقع أيضا أن قواعد الإسلام السياسي والمتعاطفين معه بالخصوص شيدوا بدورهم آمالا عظيمة على القادة، ثم رأوها تنهار، فخف حماسهم “للجهاد” لأجل الحكم الراشد. أما الشعوب، فبدورها فهمت أن السياسة في بلاد العرب كذبة يتقنها الإسلاميون والعلمانيون على السواء فقرفت أولا الفوضى التي تجر إلى الخلف ليصير أقصى “حلمها ” أن تنعم من جديد بالاستقرار ولو مشوبا بالاستبداد.

فوق ذلك لم يتخلص الإسلاميون رغم الحكم من عقدة الاضطهاد، وظلوا يتشوقون لها كصانعة لشرعيتهم التي لا تتخلق إلا بالدماء والسجون والمنافي، فاستدعوا بأخطائهم لا شعوريا العسكر من جديد. لقد عجزوا عن الحكم إذن ولكنهم ظلوا غير عاجزين عن التشكي من الظلم.

ومن المؤامرات والفلول إلى أن تحول قدوم العسكر إلى شبه خلاص لهم ينقذهم من فشلهم في الحكم.

لم يعرف الإسلاميون كذلك كيف يتعاملون مع المركز الذي يمص خيرات العالم العربي. لم يطمئنوه صراحة على مصالحه ليساندهم. ولم يقاوموه أيضا ليضللوه. لكن خطابهم للشعوب كان خطابا مناهضا لهذا المركز. وبهذه الازدواجية أو الثلاثية في السلوك خسروا في النهاية كل شيء و بعد ذلك خسروا أنفسهم أيضا.

الانتظارات كانت كبيرة. والإسلاميون حكموا في ظرف ملتهب وصعب احتمالات الفشل فيه أكبر من النجاح. فقرف منهم الناس وملوهم، لأن أساس التعاقد كان تحسين ظروف العيش في هذه الدنيا الفانية وليس في الآخرة الآتية مما عرى تناقضاتهم وكشف ظهورهم للخصوم.

ولأنه لم تكن توجد قوة سياسية مهيكلة قادرة على مناجزة الإسلاميين تصدت للأمر قوة اجتماعية منظمة أخرى كانت عينها على استياء الشعوب من تأخر الحلول. هي قوة العسكر.

وبذلك انتهت الثورة في مخدع الجيش قسرا أو طواعية. كأن ذاك كان هو الممكن سوسيولوجيا ليس عندنا فقط، بل لدى جميع الثورات. فحتى الثورة الفرنسية إذا تذكرنا جاءت بالجنرال نابليون بعد فترة من المخاض.

لكن هذه المآلات مع ذلك اختلفت هن ذلك في الملكيات العربية. وهذا من حسن حظ شعوبها وإسلامييها على السواء. ملكياتنا حاكمة تمسك جوهر السلطة. ولذلك، تتيح للإسلاميين أن يقفزوا إلى مركب السلطة حتى دون ثورة وتتيح لهم أن يستمروا في الآن نفسه في ترديد معزوفة المظلومية القديمة. كما أن هذه الملكيات تستطيع أيضا أن تدبر بشرعيتها على عكس الجمهوريات أي سخط شعبي على حكم الإسلاميين من دون الرجوع إلى العسكر.

نهاية نظن أن على الجماهير العربية أن تستوعب أن الثورات لا تمطر ديمقراطية ولا كرامة ولا مدنية. فذاك مرتهن إلى تحقق الشروط الموضوعية الضرورية. ولذلك، فثورات دون رؤيا ودون وعي بميزان القوى واستبصار كامل لإمكانيات الفرقاء الحقيقية، ودون تخيل مسبق للسيناريوهات المتمخضة عنها ودون فكر تنويري يؤطرها ستكون عبارة عن مجرد رصاصات في الفراغ.

لا بد، إذن، من ثورة ثقافية قبل أي ثورة عضلية. ولربما تكون الثورة الثقافية كافية لنا لتنزيل إصلاحات حاسمة تجنبا تكرار هذا المصير المؤلم الذي انتهت إليه بسبب الثورة أولا ثم الإسلاميين ثانيا ثم العسكر ثالثا أجمل واعرق العواصم العربية.

إن مستقبل أي حراك عربي رهين بقرار العسكر في عدم التدخل، وهذا القرار العسكري بدوره رهين بتعقل الإسلاميين وعدم سعيهم إلى الهيمنة على كل مفاصل الدولة. تلك هي وصفة تونس إلى حدود اليوم.

‫تعليقات الزوار

6
  • Arsad
    الخميس 22 غشت 2019 - 08:51

    الصراع كله هو بين تركيا وقطر من جهة والسعودية والامارات من جهة اخرى والبترول السعودي الاماراتي حتى الان هو المنتصر على غاز قطر وديموقراطية تركيا

  • لعبة المصالح
    الخميس 22 غشت 2019 - 09:42

    لا توجد ثورات في الوطن العربي، بل يوجد انقلابات بين القوى المتحكمة في التسيير، والخطط تتم عن بعد ولغرفة العمليات الخارجية أدواتها المأجورة وكراكيزها المستعدة أن تتسلم الحكم لتنقذ ما يملى عليها من أسيادها من الخارج، لن أصدق مثلا أن البشير تم عزله بثورة شعبية بل انتهت صلاحيته بالنسبة لداعميه لاسيما بعد ظهوره العلني ينزل عبر طائرة روسية لملاقاة الأسد في خطوة مفاجأة للجميع، وبالتالي بدأنا نسمع ثورة الخبز وعودة رموز المعارضة من الخارج لقيادة المسرحية وأخيرا تظل الأمور على ما هي عليه ما دامت القوى الخارجية وضعت هندسة مصالحها سواء في السودان أو باقي المنطقة.

  • KITAB
    الخميس 22 غشت 2019 - 10:48

    أولاً فتيل هذه الثورات كان بإيعاز من أحد اليهود عراب "الربيع العربي" والذي كانت تونس أولى محطاتها لتليها دول عربية أخرى، لكن الملاحظ أن كلمة "ثورة" لا يمكن أن نقيس بها ما حصل، بل كانت هناك انتفاضات وغليان جماهيري جراء ما لحقه من ظلم وحيف من قبل الأنظمة الحاكمة، فالثورة بتقديري احتجاج كاسح ومنظم ومؤطر، بيد أن ما حصل في الربيع العربي هو فوضى عارمة تطورت مع الأيام إلى نهب وتخريب الممتلكات ، ثم ما فتئت أن سقطت بأيدي جماعات إسلامية، ليبدأ التناحر على السلطة بين تيارات متطرفة، هذا ما دفع بمؤسسة الجيش التدخل بذريعة حماية النفوس والمؤسسات العمومية، ولعب دور "المرحلة الانتقالية " ، والملاحظ أن سقوط الرئيس في هذه الدول هو سقوط لجميع المؤسسات وكأن الدولة كانت تختصر في شخصه إذا ذهب ذهب معه كل شيء، بخلاف الدولة القائمة على مؤسسات منتخبة ومستقلة فلا تتأثر لغياب الرئيس أو انتفاضة شعبية مثال انقلاب تركيا الذي لم يعمر أكثر من بضع ساعات لوقوف الشعب وصموده في وجه الانقلابيين، ثم متانة المؤسسات الحكومية والقائمة على اختيارات شعبية ، وتحياتي

  • محمد
    الخميس 22 غشت 2019 - 16:45

    ما قلته عن عسكرة نظام الحكم في تونس سخيف جدا و من نسج مخيلتك فعبد الكريم الزبيدي (الذي لا اتمنى نجاحه في الانتخابات) ليس بعسكري بل هو مدني ومهنته استاذ جامعي وقد شغل منصب عميد كلية سوسة.

  • غ،صمغربي
    الأحد 25 غشت 2019 - 04:34

    من يريد وءد التغيير وفشل الربيع العربي
    اصبح من الواضح وضوح الشمس ان مصر والسعودية والبحرين بمساعدة بعض الدول الغربية كفرنسا وأمريكا وإسرائيل ،من يخطط لحملات مضاضة ،في كل الدول العربية التي تحاول شعوبها بالانتفاضة لتغيير حكومات الاستبداد باخرى ديموقراطية شعبية ،وما يحدت الان في ليبيا والسودان والجزاءر أقوى ذليل على التدخل الأجنبي لإحباط رغبة شعوب تلك البلدان في طلب إستقلالية اقتصادها وسياستها الاجتماعية …
    ان سياسة الهيمنة والسيطرة التي تحاول بعض الدول الآنفة الذكر ،استعمالها ،لن تزيد الا في إشعال الحروب ،كما كان الشأن في الحرب العالمية الاولى والثانية .
    وهكذا تستعمل الدول العضمى عسكر الدول الضعيفة ،في مساندتها للتحكم في شعوبها ومنعها من التحرر الاقتصادي والسياسي ،وحرمانها من التوجه الديموقراطي المستقل ،فمصر مثلا منذ التخلص من الحكم الملكي ،والجيش داءما هو الوحيد الذي يسير شءون الدولة …الى غاية ٢٠١٣،الذي حكم فيه المدنيون أسنة واحدة ،وانقلب وزير الدفاع السيسي على الرئيس محمد مرسي،والبقية كلنا نعلمها ،وهكذا من بلد لآخر من البلدان المستضعفة يتم سيطرة السكر فيها على الحكم بالقوة ،وتضل الهيم

  • nawrace
    الثلاثاء 27 غشت 2019 - 20:31

    في غياب ثقافة شعبية حقيقية لايمكن الحديث عن ثورة حقيقية.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة