التربية أساس التعايش بين الثقافات والديانات

التربية أساس التعايش بين الثقافات والديانات
الأحد 7 أبريل 2019 - 10:02

المغرب بلد منفتح وانفتاحه ليس وليد الصدفة بل هو ثمرة مسيرة التاريخ والجغرافيا؛ فتاريخيا، عرف المغرب الكثير من الثقافات التي تركت فيه آثارها حتى بعد أن طوى دولها وشعوبها النسيان –الرومان، الفينيقيون، الوندال، البيزنطيون….- أما على المستوى الجغرافي، فلسنا في حاجة إلى التذكير بالمعطيات التي تجعله منفتحا على أكثر من جهة، صلته بالشرق، عمقه الإفريقي، ونافذته على أوروبا، وامتداده على مسافة 2000 كلم على المحيط الأطلسي، وانتماؤه إلى ثقافة جنوب حوض البحر الأبيض المتوسط.

وهذا ما جعل الملك الراحل الحسن الثاني يقول: إن المغرب شجرة جذورها في إفريقيا وأغصانها في أوروبا، ويمكن أن نضيف بأن هذه الشجرة لا تتوقف أغصانها عن التمدد لتظل جهات أخرى من العالم وأن تمدد أغصانها يوازيه تسرب جذورها في باطن الأرض لتمتح من مياه أخرى مختلفة المكونات. هذه الفلسفة هي المنطلق الذي يمكن من خلاله فهم ومقاربة زيارة بابا الفاتيكان للمغرب بتاريخ 30 و31 مارس 2019، والتي بدل النظر إليها من هذه الزاوية عمل البعض على اختزالها في حفل معهد تكوين الأئمة والوقوف عنده وقفة سطحية لا تستشرف المستقبل ولا تستحضر الواقع الذي نعيشه بتعقيداته وترابطاته.

نود من خلال هذه المساهمة الوقوف على أهم الرسائل التي بعثت بها هذه الزيارة التي اتخذت من رمزية الحوار بين الديانات الإبراهيمية قاعدتها الصلبة، من أجل أن تمرر خطابات ما أحوج الإنسانية إليها في زمن انتشرت فيه مشاعر الحقد والكراهية والإقصاء وطغى فيه القتل والدمار باسم الانتماء الثقافي والديني.

ولعل أهم رسالة على المستوى الدولي هو النداء الذي وجهه الملك محمد السادس بوصفه أميرا للمؤمنين إلى كل المتدخلين في قضية القدس والذي تم توقيعه ومباركته من طرف الزعيمين الروحيين. ليؤكد المغرب مرة أخرى، بواسطة هذا النداء، على تصوره النابع من وعيه التاريخي للمنطقة وملابساتها، ووقوفه الواقعي والثابت مع القضية الفلسطينية في ظل سياق محكوم بمناورات تستهدف حقوق الفلسطينيين؛ وهو ما جعل ملك المغرب بصفته أميرا للمؤمنين يمنح لشكل رسائله بعدها التعددي من خلال تحدثه بأربع لغات وهو تفرد غير مسبوق، ويوسع من مفاهيم التسامح والحوار ليعطيها أبعادا عميقة تتجاوز مفهوم الحوار بين الأديان إلى اعتبار الديانات التوحيدية قادرة على التأثير إيجابيا في النظام العالمي ما دام أن جوهر قيم الديانات الإبراهيمية يحمل فلسفة بإمكانها عقلنة هذا النظام العالمي وإعادته إلى رشده.

وفي هذا السياق، تمكن المتتبعون لهذه الزيارة التي تعني على الأقل أكثر من نصف العالم من استيعاب مفهوم إمارة المؤمنين – الذي ما فتئ كاتب هذه السطور يقف عليه في كل مناسبة سواء على مستوى الإعلام المرئي أو المسموع والمكتوب، باعتباره حظا تاريخيا يجب على الأمة المغربية التمسك به للمحافظة على أمنها الروحي- هذا المفهوم الذي لا يعني فقط معتنقي الديانة الإسلامية بل هو ضامن كذلك لحرية المعتقد بالنسبة إلى معتنقي الديانة اليهودية والديانة المسيحية القاطنين بالمغرب.

إن المراد من هذا التعايش بين الديانات الإبراهيمية يتعدى مفهوم التسامح الديني الذي ينطلق من مفهوم الأقليات ولم يحقق الهدف المنشود، إلى وضع أسس ثقافية تسمح لهذه الديانات بالتحاور فيما بينها والانفتاح على قيم بعضها البعض –وحدها هذه الدربة الروحية والفلسفية قد تمكن العالم من مواجهة التطرف بكل أشكاله.

وفي هذا الصدد طرح ملك المغرب أمير المؤمنين فكرة جوهرية تعني الإنسان أينما كان عندما قال: بأن مواجهة التطرف لا تجد أدواتها فيما هو عسكري أو مالي بل إن عتادها يجب أن يستمد من التربية.

وهذا المفهوم، مفهوم التربية، سيقف عليه كاتب هذه المقالة باعتباره مهتما بالسوسيولوجيا وينظر إليه كحل إستراتيجي لتجنب كل ما يشهده العالم من تطاحن باسم الانتماء الثقافي والديني. وكما جاء في كلمة ملك المغرب وأمير المؤمنين، فإنه بالفعل ما يهدد الحضارات في الصميم هي هذه التصورات الثنائية للأشياء والغياب المعرفي المتنامي، وليس الدين كمفهوم روحي جاء ليلطف الحياة ويهذبها ويؤنسنها أكثر، ليبقى المشترك بين الإرهابيين ومنظريهم هو الجهل المقدس لتعاليم وروح الدين، الأمر الذي يعمل على تكريس مفهوم الإسلاموفوبيا.

وهذا ما نلاحظه ونلمسه من خلال المحاولات المتتالية التي يقوم بها البعض باسم الدين لنشر الفكر الإرهابي والعمل على مأسسة الجهل المقدس مستفيدين من التقنيات الجديدة ومن مواقع التواصل الاجتماعي، لتكريس الفهم الأناني للتفوق الديني وإلغاء البعض الآخر وتوطيد معاني الحقد والكراهية والقتل.

فما السبيل، إذن، في عالم أضحى فيه العنف عقيدة وممارسة يومية، وتقلصت فيه مساحات التسامح وتراجعت معه إمكانية التعايش الديني لتتمدد في المقابل ساحات التعصب.

لقد بذل الباحثون جهودا كبيرة لدراسة هذا الواقع وتحليله بغية التوصل إلى حلول ناجعة قادرة على استئصال مشاعر الحقد والكراهية والنظرة الأحادية. ووضعت من أجل ذلك إستراتيجيات سياسية وأمنية فعالة لمواجهة تحديات العنف والعدوان، تأسست في معظمها على أهمية العوامل الاقتصادية والسياسية ودورها في إشاعة الكراهية والعنف. وانطلاقا من هذا النوع من الدراسات ونتائج الأبحاث، صيغت السياسات وبنيت الإستراتيجيات للقضاء على مولدات العنف الديني الاقتصادية ومؤثراته الاجتماعية والأمنية؛ ولكن اتضح فيما بعد أن هذه المقاربات لم تحقق الانتظارات المرجوة في مواجهة تحديات العنف ومحاصرته أو على الأقل التقليص منه؛ وهو ما جعل البحث يتوجه نحو ضرورة التفكير في العوامل التربوية والثقافية التي قد تفوق في تأثيرها حدود ما يمكن تصوره، إذ إن مؤسسات التنشئة الاجتماعية والأنظمة التربوية السائدة تتحمل إلى حد كبير مسؤولية إشاعة مشاعر الحقد والكراهية والعنف، وبأنها قادرة في الوقت نفسه على التأسيس لقيم التسامح والتعايش، ففي التربية يكمن داء العنف ودواؤه تماما كما يقال: “داوها بالتي كانت هي الداء”. فمؤسسات التنشئة الاجتماعية، انطلاقا من ضرورة بناء إنسان يغني وجوده بتقاسم تجارب الأمم الأخرى والانفتاح على ثقافاتها واحترام معتقداتها ودياناتها يمكنها – وخلافا لدورها التقليدي المولد العنف – أن تؤسس لمشاعر التسامح والتعايش والسلام في عالم أنهكته الحروب وسودته مظاهر العنف والعدوان. فمؤسسات التنشئة الاجتماعية بمختلف أنواعها قادرة على بلورة منهجيات تربوية وثقافية لوضع قواعد وأسس ومبادئ السلام والإخاء والتفاهم والتعايش بين الأفراد والجماعات والأمم على اختلاف دياناتها وثقافاتها، حيث تشكل التربية ذات البعد الإنساني منطلقا لمحاصرة العنف والتعصب في العالم. فهذا التصور التربوي الجديد هو الذي يجب التقاطه من زيارة البابا للمغرب بوصفها هي الداء في ممارستها الحالية والدواء، إذ ما توجهت إلى بناء قدرات تمكن الأجيال الحالية والمقبلة على التفاعل الإنساني، والتعايش مع مختلف الثقافات والديانات والعقائد؛ فالأجيال الحاضرة لا تتوفر على الجاهزية لمواجهة العنف والتطرف، لأن مؤسسات التنشئة الاجتماعية لم تمكنها من المهارات والقيم التي تؤمن لها الإيمان بمفاهيم التسامح في مراحل الطفولة والصبا والشباب. وهذا العجز هو ما تصدت له زيارة البابا فرانسيس للمملكة المغربية وما حملته رسائل أمير المؤمنين من تصورات جديدة لتبني أسلوبا تربويا وإستراتيجية للتنشئة بأبعادها الإنسانية تكون نتائجها مضمونة على المدى المتوسط لوقف حجم المآسي التي ترتكب بحق الإنسانية والإنسان من عنف وحرب وقتل وتدمير باسم الاختلاف العقائدي والثقافي.

إن الباحثين في مجال السوسيولوجيا يكادون يتفقون على أن كل عنف وعدوان ما هو في نهاية الأمر سوى ردود أفعال ضد عنف آخر، وهذا ما يفسر بأن العنف الذي نعيشه اليوم ما هو إلا نتيجة طبيعية لعنف تربوي يكون تارة شعوريا وفي أغلب الأحيان لاشعوريا.

هذه بعض إيجابيات هذه المبادرة التي جاءت في ظرفية جد مناسبة والتي قد لا ينتبه إليها من لا يتمتعون ببعد النظر، ولذلك لاحظنا كيف أن بعض من ركزوا على هذه الجزئية أو غيرها ضلوا الطريق وفاتهم أن يقرؤوا الحدث بشكل استشرافي يراعي الماضي والحاضر ويعمل على رسم المستقبل، بدل أن يتركه في يد المجهول.

*باحث في السوسيولوجيا

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 1

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز