عَطَبُ الحَيَاةِ الطُّلابِية؛ التّـبْخِيسُ وَالعُنْفُ وَأَشْيَاءٌأٌخَر..

عَطَبُ الحَيَاةِ الطُّلابِية؛ التّـبْخِيسُ وَالعُنْفُ وَأَشْيَاءٌأٌخَر..
السبت 9 فبراير 2019 - 12:39

تتصرف كثير من الذوات الثقافية المغربية إزاء معضلة التعليم، سواء بالمدرسة أم بالجامعة، كما لو أننا في وضعية خيار؛ أقصد وضعية خيار بين أن ننخرط في الأفق التعليمي العالمي بإيجابياته وسلبياته أو أن ننكفئ على أنفسنا ونحلم بإمكانية صناعة نموذج تعليمي خاص، مستقل عن مجريات التطور التقني المتسارع، قادر على تقديم الحلول لمعضلاتنا التنموية والمجتمعية المختلفة.

والحال أن وضعية الاختيار غير موجودة إلا في أذهان هؤلاء، ذلك أننا أَضْحَيْنا، رغم ما نَجْهَرُ به من أحاديث الرفض والممانعة، مجبرين على التفاعل مع ما يعتمل في هذا العالم الصغير من أشكال الفعل والتعبير والتعاون والصراع إلخ، ملزمين باستهلاك منتوجات مادية وثقافية قادمة من جهات العالم الأربع، حتى وإن قضينا عمرا نلعن هذا الدَّفَقَ التقني الذي يكتسح العالم من أقصاه إلى أقصاه.

مناسبة هذا الكلام رغبتي في إثارة وجه من أوجه الاختلال بمؤسساتنا الجامعية، وهو وجه الحياة الطلابية، على نحو أريد من خلاله إثارة الانتباه إلى عدم ملاءمة الأنشطة الجامعية الموازية للحاجيات الطلابية الفعلية، وعدم انسجام بنية التخطيط التدبيري لهذه الأنشطة مع الواقع الاجتماعي. وهو ما يجعلها عاجزة عن إشباع الاحتياجات السيكولوجية الدنيا للطلبة المتمدرسين، غير قادرة على ملامسة مجمل دوائر الهوايات والرغبات، فبالأحرى أن تشكل السند المساعد لمادة العرض التكويني، أو أن تتسرب، بوصفها غايات، إلى مضمون المخرجات الجامعية.

مشكلة الحياة الطلابية الأساسية، في شكلها الراهن، أنها مجال الهامش أولا، والترفيه ثانيا، وغياب التخطيط ثالثا، وتكريس التقليد رابعا. أعني بالهامش وقوعها في آخر دوائر اهتمامات هيئات التدبير الجامعي، وأقصد بالترفيه قيامها على قاعدة تزجية الوقت بما يتاح من أشكال التنفيس، وأرمي بغياب التخطيط عدم وجود خطط عمل متوسطة الأمد تعرض مشاريع مندمجة تمس مجالات الحياة الطلابية، أما التقليد فأعني به إصرار الجامعة المغربية على اجترار النشاط الطلابي الموازي نفسه، سنة تلو أخرى، دون أي محاولة لتجديد مجالات التدخل، وصيغها، أو ابتداع أشكال مستجدة لهذا الحياة تلامس مجالات الاهتمام الجديدة (فنون، إبداعات افتراضية، رياضات، أشكال تباري وتنافس..).

هكذا، وفي ظل ما تقدم ذكره، يتم تكريس تصور تبخيسي (غير معلن) تجاه مجال الحياة الطلابية، بحيث يعتقد الفاعل (المدبر والمستفيد) أنه بصدد فائض الفعل، وزائدالنشاط الذي يمكن الاستغناء عنه دون أن يرتبك أي واحد من مجالات العملية التعليمية الجامعية، وأن محور الفاعلية فيه قائم على الترفيه فقط؛ ترفيه مطلوب في ذاته ولذاته. فما الذي يمكن فعله، في هذا الباب، للخروج من وضعية الكمون المديدة التي تعيشها الحياة الطلابية بالجامعة المغربية؟ وقبل ذلك، هل ثمة فائدة، حقا، في المراهنة على الحياة الطلابية في ظل الواقع الاجتماعي الراهن؟

يجدر بي، بداية، أن أثير أمرا ذا صلة، وهو بروز عدد هائل من أبطال الرياضة الغربيين في خضم الأنشطة الرياضية الجامعية، وقيام حركة مسرحية وسينمائية رفيعة بين أسوار الجامعات الأوروبية، بل إن بعض أشكال التعبير الفنية لا تجد لنفسها من محضن دافع سوى الجامعة، وفضلا عن ذلك كله، يتم اعتماد وجوه “التنشيط” الثقافي والرياضي باعتبارها وحدات رئيسية ضمن مادة العرض التكويني الذي يتلقاه الطلبة بصرف النظر عن تخصصاتهم ودرجاتهم في سلم التحصيل الجامعي.

ثمة رهان مجتمعي على الحياة الطلابية بهذه البلدان، رهان يحيل هذه الحياة مشتلا تجريبيا لممارسة الحياة، وتنزيل مضامين القيم الإنسانية التي يتم تَشَرُّبها (كمادة معنوية ورمزية) ضمن بقية مواد التكوين ذات الطبيعة النظرية.

يتعلق الأمر، إذاً، بما يشبه أعمالا تطبيقية يتم فيها نحت القيم والمهارات التواصلية والأخلاقية التي تستوجبها الحياة، أو لنقل إن هذه الأنشطة الطلابية تغدو سلسلة من الاختبارات التي تحاكي ما سيعترض الطلبة بعد خروجهم من أسوار الجامعة من مآزق إنسانية ووجودية، ولذلك كانت أفيد من الاختبارات التي تُعنى بتقييم المكتسبات النظرية والتطبيقية في ظل وضعيات نموذجية لا وجود لها في الواقع.

نحن بحاجة، بدورنا، إلى حياة طلابية على هذا النحو والمثال، حياة طلابية تزرع في طلبتنا قيمة المبادرة، وتدفع بهم إلى اختراق الآفاق، وتمدهم بما يكفي من الزاد النفسي الذي يمكنهم من مجابهة إخفاقات الحياة. بمعنى أن العبرة ليست (دائما) بجودة المخرجات المعرفية والمهنية التي يمكن أن يراكمها الطالب، ولكن العبرة بهذه المخرجات متى تم تحصيلها مشفوعة بشخصية متزنة متوازنة، شخصية تنخرط في مسيرة الحياة المدنية بما يكفي من إحساس بالمسؤولية والالتزام تجاه الأسرة والمجتمع والوطن.

تستطيع الحياة الطلابية، كما أدعو إليها عبر هذه الورقة، أن تغرس في نفوس الطلبة قيمة مهمة أيضا هي قيمة الإبداعية، وهي قيمة، لعمري، مفقودة في مجمل مؤسساتنا التربوية، وذلك بتثمينها وجعلها في بؤرة النشاط العلمي-الثقافي الموازي، عن طريق إجراء أشكال التنافس والتحفيز في هذا الباب، وتوسيع وعاء الاستفادة من هذه الأشكال على أوسع نطاق ممكن، مع إمكانية جعل حيز خاص بمصوغات “الإبداعية” ضمن وحدات التكوين الجامعي (الأساسي والممهنن).

حياة طلابية غنية تعني، أيضا، ألا يتردد الطالب في الانخراط في مجموع الأنشطة الثقافية والرياضية المعروضة أمامه، أي أن تمتلك هذه الأنشطة ما يكفي من الجاذبية المطلوبة، حياة طلابية تخصص لها اعتمادات مادية وبشرية ولوجستيكية تليق برهاناتها القيمية الكبيرة، وتوفر للطلبة فرصا للتعبير والإبداع على قاعدة الاستحقاق الجماعي، بحيث يستفيد كل الطلبة من أنشطة موازية لائقة تلائم استعداداتهم وميولاتهم النفسية والجسدية المختلفة.

أميل إلى الاعتقاد، ختاما، أن الحياة الطلابية التي أدعو إليها، هنا، ستكون جوابا على إشكالية عميقة تمس الجامعة المغربية، وهي إشكالية العنف الطلابي، فجذور العنف غير قائمة في الاختلاف؛ لأن هذا الأخير جوهر إنساني ثابت وواقع لا يرتفع، ولكنها قائمة في انعدام جسور التواصل وغلبة مناخ سلبي قائم على الاستعداء والتنافر النفسي، ولو وُجدت بالكليات حلبات دورية للتنافس والتباري وطلب الزعامةعلى قاعدة التجمعات غير “الفصائلية”، لذابت كثير من مسببات العنف بالجامعة، ولتم تطويق عديد من أشكال سوء الفهم الجارية في محيط الطلبة.

‫تعليقات الزوار

11
  • عمر محموسة
    الأحد 10 فبراير 2019 - 11:01

    إن الحياة الطلابية الجامعية باتت اليوم في حاجة ماسة إلى تظافر الجهود من طرف الخلايا الإدارية والبيداغوجية مع إشراك التعاضديات الطلابية لأجل تنزيل أنشطة موازية ستسهم لا محالة في تحقيق مخرجات مناسبة للواقع السوسيوثقافي بالمغرب، وما أشار إليه كاتب المقال هو توجيه منطقي مائل إلى تحقيق النجاة بجامعاتنا المغربية، نجاة مما باتت تتخبط فيه هاته المؤسسات من عنف ناتج عن الفراغ الثقافي والفني والابداعي والرياضي الذي تعيشه الجامعة، ناهيك عن أنه مرتبط بأفكار تحمبها فئات طلابية في مجملها يدعو إلى العنف، وما اقترح السي الجطاري ما هو إلا جسر لإنقاذ الجامعة من العنف والتفرقة.

  • ايمان
    الأحد 10 فبراير 2019 - 16:26

    الاستاذ الجطاري ان مشكلة الحياة الطلابية اليوم وبصفة عامة دون تبخيس، تكمن في " الفصائل والتنظيمات الطلابية" بين قوسين. فما دام التشتت والعنف والصراع المادي بالجامعة الا وظلت هذه الاخيرة معاقة. فلا تنمية ولا تقدم وتحديث سيحدث ان لم تتخلى الذات الطلابية عن ما اكله الدهر وشربه من حقد واقصاء و و و من داخل الحرم الجامعي.. وبالتالي ان وصلنا هذه المرحلة وكانت هناك رغبة فعلية بالتقدم فأكيد لن تكون هناك اي جهة خارجية ستعيق النهوض بكل جوانب الحياة الطلابية.وهذا لن يحدث الا ان اجتمع الجميع كجسد واحد وطبقوا فعلا مبادئ أوطم.

  • أستاذ باحث
    الأحد 10 فبراير 2019 - 16:33

    لغة المقال على درجة عالية من الصفاء والعذوبة. يستشعر الصدق من بين أسطرها. لا فض فوك يا رجل.

  • abdelaziz amraoui
    الأحد 10 فبراير 2019 - 17:02

    كما تفضل الاستاذ في مقاله والذي يطرح إشكالات عطب الحياة الطلابية وهو موضوع في غاية الأهمية وينظر إليه من عدة زوايا ،فلو استطعنا عقلنة وتدبير الأنشطة الموازية وفتح المجال للابداع داخل الجامعة باشراك كل الفاعلين في الشأن التربوي ،وتوسيع النقاش الهادف والبناء ، والخروج من دائرة العنف والتجادبات من أجل توحيد الصفوف ،وذلك لتطوير الجامعة المغربية ،ومن وجهة نظري وجب علينا صناعة وبلورت نموذج تعليمي خاص متكامل يشمل كل الجوانب التعليمية .

  • عبد الملك قلعي
    الأحد 10 فبراير 2019 - 21:40

    هي مشاكل كثيرة تتخبط فيها الجامعة المغربية، منها ما يتعلق بالتدبير والتسيير، ومنها ما يتعلق بالتمويل، ومنها ما له علاقة بالبحث العلمي، ومنها ما له علاقة بالبنيات التحتية… هذا دون أن ننسى ما له علاقة بالحياة الطلابية؛ وخاصة انتشار العنف والعدوان والتعصب، وغياب التسامح والإيمان بالتعددية، وتقبل الآخر، وكذا احترام الرأي الآخر المخالف، وغياب الحوار، خاصة بين الفصائل الطلابية، رغم اختلاف مرجعياتهم الفكرية الثقافية السياسية، وكذا غياب التواصل. هذا اظافة إلى أمور أخرى، تستوجب تدخل الباحثين؛ وذلك بإجراء دراسات ميدانية بخصوص هذا العنف الطلابي المنتشر في الجامعة، من أجل معرفة الداء وبالتالي محاولة البحث عن الدواء.

  • اعبوبو مصطفى
    الأحد 10 فبراير 2019 - 22:20

    أعطاب هي أستاذي الكريم تلك التي تلتهم الحياة الطلابية بالجامعات المغربية. فالخلل يعم المنظومة الجامعية بأكملها، خلل في التنظير، في التخطيط، في التنفيذ، حتى في التقييم. الخلل أستاذي الفاضل في كل ركن وزاوية. فالبرامج الجامعية ليست ذات وقع مهم لا على الطالب ولا على المجتمع ككل. كما أنها ليست ذات قيمة ابداعية، تواصلية أو أخلاقية. وهو لاشك السبب الكامن وراء كون الحياة الطلابية هامشية غير ذات جدوى، وبالتالي هي مجال خصب للعنف والتجاذبات الفصائلية. وورقتك هاته أستاذي الجليل حملت تفصيلا لكل تلك الأعطاب وأملا في حياة طلابية جامعية أكثر ابداعا وتنافسية على غرار مثيلاتها العالمية.

  • mohamed abarkan
    الأحد 10 فبراير 2019 - 23:46

    التدبير الجيد للجسم الطلابي و للمرافق الجامعية سواء داخل النظام البيداغوجي أو داخل اﻷجهزة اﻹدارية يبدأ من اختيار موظفين ذا كفاءة و لهم حس الواجب المهني و ليس العكس كما هو ملحوظ بإدارات الكليات ، وعلاوة على ذلك هناك تعنت من قبل بعض الأساتذة في تحريف مسار الدراسة سواء في الحصص أو في طريقة وضع الامتحان أو في تصحيح أوراق الامتحان، مما يدل أن هناك تعمد مباشر يؤثر على السير العادي للدراسة و كنتيجة لذلك تعيش الساحة الجامعة العنف المادي و الرمزي منذ عهد مقاطعة الامتحانات و تبقى حلحلة المسار اختيار موظفين لهم الكفاءة و الخبرة في التسيير.

  • حمو الحناوي
    الإثنين 11 فبراير 2019 - 00:14

    إذا كان المغرى الأساس في بداية ظهور الجامعات هو المقارعة الفكرية بين الباحثين باعتبار الباحثين هم نخبة التي ستنهض بالمجتمع لكن عكس ذلك في الوقت الراهن فالجامعة ولت مكان لتمرير الخطابات الإيديولوجيا ولهذا سيؤدي الى تكون فصائل من أجل تضارب الأفكار بينهم وهذا الأخير مما سيؤدي إلى خلق الصراعات والعداوة بينهم.

  • برحيلي ايمان
    الإثنين 11 فبراير 2019 - 00:54

    أستاذي الفاضل نجد أن الحياة الطلابية بالجامعات المغربية تتآكل والخلل يعم المنظومة الجامعية التعليمية ككل فالمناهج والبرامج الجامعية لا تعطي أكلها كما ينبغي وبالتالي فبناءها لم يرتبط بأهداف تواصلية واخلاقية مما يجعل الحياة الطلابية هشة وقابلة لممارسة العنف والصراعات بين الفصائل التي ساهمت في تكريس الازمة فهدا المقال يحمل في طياته ملخصا شاملا لهده الازمة كما انه يعكس الطموح والامل في عودة الحياة الطلابية الجامعية الى مسارها الصحيح الذي يجب ان يكون عليه

  • عبدالرحمان شباب
    الأربعاء 13 فبراير 2019 - 10:02

    حبذا لو اهتم الجسد الطلابي بالصراع الفكري والاقتتال العلمي والتنشيط الذهني ومقاطعة الجهل بدل مقاتطعة الامتحانات ….ولكن هذه الظواهر المتفشية في الجامعة نتيجة حتمية لمنظومة متهالكة تعيد انتاج التخلف والرداءة للحفاظ على البؤس والتخلف المغلفين في رداء الحرية والتحديث…

  • مراد الطهريوي
    الخميس 14 فبراير 2019 - 11:49

    هذه المرة تفكير الأستاذ الجطاري،يتجه صوب الحياة الطلابية،حياة منبثقة من مجال الهامش أولا، والترفيه ثانيا،وغياب التخطيط ثالثا،وتكريس التقليد رابعا،لا مجال للحديث فيها عن الإبداع والفن والخلق،لأن الواقع عكس لنا الوضع القائم منذ سنوات في تكريس النمطية،في المقابل قدم لنا الأستاذ حلول ناجعة عملية للخروج من هوس الروتين اليومي للطلبة والطالبات،في إطار بناء طالب قادر على كسب رهان التحولات التي يعرفها المجتمع،وكذا إدراج وحدات تكوينية تتماشى وتطلعاته وميولاته ورغباته.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 2

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة