الــــصــرخـــــــة

الــــصــرخـــــــة
الأربعاء 24 أكتوبر 2018 - 20:33

” من وحي اللوحة الشهيرة للفنان التشكيلي العالمي النرويجي: إدواردْ مونسْ ( 1863 ـ 1944 )”.

إلى: روح جمال خاشُقْجي

ثمة فرق في المعنى والدلالة، والبعد اللساني، والبناء الصوتي الطالع من أعماق ودفائن الذات، والنفس البشرية، ثمة فرقٌ في المعنى لا في الحالة الناشئة المشتركة من وجوه، بين الصيحة والصرخة. فبينما تفيد الصيحة ـ في أقرب معانيها ـ النداء العالي، النداء التحسسي الموجه والقيامي، والصوت المدوي المباغت والفجائي بغية تحذير أو استنفار، أو إطلاق نَذْر من النُّذُر، فإن الصرخة ـ في أدل مداليلها ـ تعني إطلاق كل ما تختزنه وتنطوي عليه النفس الآدمية من آ لام ومواجع، وفواجع، ولوعات، وارتعابات، عاليا، عالياً حتى تتصادى لها الجهات، وتهتز العقول والوجدانات، ويخْتَضّ الضمير الإنساني إذا بقي فيه نبض ما، وإحساس بشري ما، بأن الأمر جِدٌّ كل الجد. فهي نداء داخلي بشري خائف ومخيف منبثق من الأعماق، يشير إلى ان المصيبة حالَّة أو قادمة، والغيوم السوداء الفحمية، أو الصفراء الكبريتية تهدد بإنزال ونشر حقينتها ومكنوزها بين لحظة وأخرى، أو هي تفعل ولا غوثَ ولا مغيثَ، ولا طوق نجاة.

ولأن الكلام ومختلف التعبيرات اللغوية واللسانية، والفنية والأدبية والفكرية، لا تَفي ـ في أحايين كثيرة ـ بالمراد مهما أوتي مبدعوها ومُحْدثوها ومفكروها، من آي التعبير والبيان عما يمور ويغلي، وعن الخراب العام، والموت البطيء الذي يكسر أعتى الأفئدة، وأصلب الظهور، والخواء الروحي الهائل الذي يرن ويطن في جنبات الكون، كاشفا عن موت الإنسان المعنوي، وانتحاره المرئي واللامرئي، فإن الرسم يفوق في هذا المنحى وذاك المجال، آلاف القصائد وآلاف المسرحيات، وآلاف الخطابات النادبة المولولة، وبخاصة إذا كان أبلغ وأنفذ، وأعلى ” فصاحة “، وأشد تعبيرا وكشفا عن حرائق الذات، والنيران التي تحرق ـ دونما هوادة ـ أشياء العالم والكون والإنسان.

من هنا، فإن لوحة ” الصرخة “، عمل فني رهيب، واضح وخفي، جلي ودفين، معتم ومضيء، جارح وقاسٍ، وخاضٌّ للدواخل والبواطن، وراجٌّ للضمائر والنفوس والأفئدة، والعقول. لوحة ” يملؤها ” إنسان معزول ومخذول، منبوذ، خائف، متوجس، ومرتعب من رؤية ما وقع ويقع. شخص ضئيل هزيل منطفيء الهيئة، ممسوح الشكل كأنه شبح يتوسط ألوانا كابية باكية. ومع ذلك ” يملؤها ” وذلك سر قوة اللوحة وإبداعيتها، وخلفه شخصان هلاميان شرسان. لعلهما مجرمان يتعقبان الصارخ الملتاع، ينويان به سوءا وشرا، ويتقصدان محوه، وتكميم فمه المفتوح عن آخره، إذ أنه فاضح وكاشف، ومُنَبِّهٌ على الجريمة الكونية التي يقترفها الطغاة المستبدون والمتنفذون الذين يحصدون الأرواح كما يحصد المزارعون السنابل الناضجة.

لا ينبغي أن ننسى أن الزمن زمنُ حرب كونية مستعرة لم تبقِ ولم تذرْ لوَّاحةً للبصر. أتت ـ كما نقول ـ على الأخضر واليابس، على الشجر والحجر والبشر، فإذا الأرض يبابٌ كما عبر الشاعر ت.س إليوتْ، وإذا ما يحدث ضد إرادة البشر، وتوقهم إلى السكنى الهادئة، والتساكن المريح، هو من صنع أشرار مخفيين كامنين لنا في كل منعطف ودرب، وثنيَّةٍ وركن وزاوية، كما صور ذلك باقتدار فرانز كافكا. أو أنه جنون بلا ضفاف، جنون هادر أصاب بسيله ولوثته الكل، فاستشعره الضعفاء الأهشاش من الناس، استشعره ذوو الإحساس الرهيف، والقلب الضعيف، وفي طليعتهم: الشعراء والتشكيليون، والموسيقيون، والروائيون، والمسرحيون. استشعره ـ تمثيلا ـ كل من هولدرلين، ولوتريامون، ورامبو، وتراكلْ، وأرطو، وفان غوغ، وروسو، ودوسادْ، وإدغار آلان بو، وبوريس فيون.. الخ.

هؤلاء وغيرهم ك: إيديت بياف، وجولييت كريكو، وجاك بريل، وليو فيري، وبراسنز، وإيف مونتان، وشارل أزنفور. فضلا عن عازفي الجاز الأمريكي، والبلوز، والروك أند رول، وموقِّعي الرقص والغناء الإفريقي الطوطمي المهيب، والموسيقى اللامقامية الأوروبية ( سترافنسكي نموذجا ).، من دون أن نغفل دور المدارس الفنية والأدبية التي كانت مرآة مجلوة ومشروخة، معبرة تعبيرا هائلا ومدوخا عن انسحاق الإنسان تحت وطأة الإنسان، انسحاق قيم الحب والخير والعدل والجمال في تاريخية قاتمة دموية مشهودة، أفرزت مواقف الشجب والإدانة، والكتابة العارية والصارخة والمدوية، من غير إخراس جذوة الفن والجمال اللذين هما عمدة الأعمال الإبداعية.

لقد كان دور السريالية ومن قبلها الدادائية، دورَ الصرخة الإبداعية في وجه القبح والبشاعة، والشر في مختلف تجلياته وإضماراته. صرخة فضحت استبداد المؤسسات، وتشييء الإنسان، وتعليب القيم، وتسويق الأكاذيب، وتلميع السقوط الحضاري، وتبرير الحروب المجنونة الرعناء والغير المفهومة، من حيث إفراغها الأعمال الدبية السابقة المهادنة والمستنيمة، من تهافتها وأضاليلها، مبرزة خطل تصوراتها، ومؤامرة أصحابها لمسايرة المؤسسات العمياء الظالمة الغشوم، وسوق مسوغات قبولها بشكل أو بآخرَ.

وإذا استرسلنا، فإننا سنشير ـ بالتأكيد ـ إلى الكتابات الفلسفية الكبرى، وإلى الأدب الروائي والمسرحي العدمي، وإلى الوجودية ” الملحدة ” السارترية والسيمونية في الفلسفة والأدب. وإلى كولنْ ولسونْ، وهربرتْ ماركيوزْ، وصموئيل بيكيت، وأداموف، ويوجين يونسكو، وأرابال، وجون أوزبورن، وبيتر بروك، وأرثر ميللر، وسعد الله ونوس، وممدوح عدوان، والمسرح المغربي الهاوي في بحر السبعينات من القرن الماضي.

إن ” صرخة ” الفنان العالمي إدوارد ْمونسْ التي رسمتها في لحظة إشراق وانخطاف، و” هذيان ” إبداعي، أنامل سحرية، أنامل ” إلهية “، استوحت من العلوي النار والرماد والنور، والمعجزة الفنية. استوحت، في لحظة عزلة موحشة باردة ورهيبة، ألما أليما، ووجعا عاتيا ممزِّقا، كابده إدواردْ كما يكابده كل العباقرة / المجانين، في الفنون والآداب والفلسفة.

صرخة يرى نفسه فيها، الموجوع الصامت، المهجر والمشرد، والمقهور والمظلوم. صرخة الجنود في حرب لا معنى لها. وصرخة الهاربين المتوجهين إلى أوروبا أمام اهوال البحار والموت المتربص.

صرخة ذوي الرأي الحر الذين يقتلون كل يوم، في بعض البلاد العربية، والبلدان الديكتاتورية، أو يفرض عليهم الصمت الناخر الآكل.

صرخة الأرامل واليتامى والثكالى والمقتلعين. وصرخة ما سمي ب” الربيع العربي ” الذي كان صرخة متواصلة علت علوا إلى عَنان السماء حتى بلغت فيها القلوب الحناجر، وبحت الأصوات، وانخرست الألسن، وظمئت الأقوات، وتململ الأموات.

صرخة الفلسطيني اليومية التي طالت واستطالت منذ أكثر من ستين سنة، والتي حملها ولا يزال، وجعا ثقيلا وممضا ك ” ليل طويل يحدق في الماء ” على حد تعبير محمود درويش.

صرخة الكردي المضطهد، والأرميني المجثت، والبهائي المغدور، والزيدي المنكوب. وصرخة الأطفال في كل بقاع العالم وهم يقضمون اليأس الذي يجري في دمائهم، وينامون ويفيقون على النبذ والطوى، ومختلف صنوف الحرمان. ويمشون على أراضٍ مبتورة بنفوس محفورة، وآمال مصادرة ومحجورة، حفاة عراة، شعت الشعور، معفري الوجوه وعيونهم إلى السماء لعلها ترسل كِسَفاً أو موائد عامرة بالأشربة والأطاييب، والمن والسلوى.

إنها صرخة تذكرني ـ أخيرا ـ

ب: قصيدة ( عواء ) للشاعر الأمريكي آلان جنسبورغ :/ 1926 ــ 1997) Howl: (I saw the best minds of my generation destroyed by madness, starving, hysterical naked / dragging themselves through the negro streets at dawn / looking for an angry fix…

( رأيت أفضل العقول في جيلي وقد دمرها الجنون، يتضورون عراة ومُهَسْتَرين يجرجرون أنفسهم عبر شوارع زنجية في الفجر، باحثين عن إبرة مخدر ساخطة… ) [ ت: الشاعر سركون بولص ].

‫تعليقات الزوار

6
  • مراد
    الأربعاء 24 أكتوبر 2018 - 20:56

    القفز نحو الأسئلة الصعبة

    يحاول أيضاً هوكينغ أن يجترح سؤالاً آخر: هل يمكن السفر عبر الزمن…؟ وهو يجيب: نعم! يمكن للإنسان أن يسافر مسافات خارقة عبر الزمن.

    ميرزا الخويلدي

  • حسسسسسسسان
    الأربعاء 24 أكتوبر 2018 - 21:07

    قراءة عميقة لواقع العالم مدعومة بلوحة الصرخة. مقال جد موفق

  • متابعة
    الأربعاء 24 أكتوبر 2018 - 21:18

    عائدة من الموت..

    مازلت إلى اليوم أذكر تلك البرودة التي سرت في كامل جسدي، الماء تسلل إلى خلاياي ومسامي والاتربة استقرت في انفي وحنجرتي، ولم اتوقف عن الصراخ " ماما، دادا، سيدي" كنت أنادي امي وجدتي وجدّي بلا توقف، كنت أستجير بذكراهم من هول اللحظة.

    مازلت أذكر أنني كنت ابحث عن فراغ في السور ادس فيه اصابعي لكي لا يجرفني الماء، كنت ابحث عن اي شيء اتشبث به حتى لو كان قشة، ولكن دون جدوى، كان جسدي الصغير يتلاطم بين حافتي الوادي وبح صوتي من الصراخ.

    يسرى الشيخاوي

  • طلال
    الأربعاء 24 أكتوبر 2018 - 21:45

    من إبتلع الجثة؟

    ولكنه الملك.ومن ينازع الملوك فى ملكهم .فانه يضع خاتمة مطافه بنفسه.
    وهو ماحدث لابى مسلم الخرسانى حين ظن انه يمكنه وبفضل تاريخ مجاهداته .وبافضاله على الدولة العباسية .يمكنه ان ينازع أبو جعفر المنصور أمير المسلمين فى خلافته.فكان ان تم إستدراجه الى قصر أبو جعفر .ثم قتله بدم بارد.بل وتقطيعه قطعاً قطعاً.ولا نعرف كيف تمت عملية التقطيع.؟

    طه مدثر عبدالمولى

  • عين طير
    الأربعاء 24 أكتوبر 2018 - 22:22

    كل من درس الرياضيات بفرنسا، لا شك أنه سمع، ولو مرة واحدة، أستاذه يقول ساخرا من أحد زملاءه يقوم ببرهان معقد على السبورة : pourquoi faire simple qu’on sait compliquer أي لماذا التبسيط طالما التعقيد ممكنا ؟
    في هذا الصدد، نشرت قبل أيام على هذا المنبر كاتبة مقالة تحت عنوان "صديقي المثقف .. بسط لأقرأك". وعلق عليها معلق تحت مسمى "فاضل"، وأظنه أستاذ رياضيات، قال كلاما بسيطا أعجبني، مفاده ان "التبسيط موهبة". وأضيف : إنه لمن السهل الممتنع.
    دعونا الآن ندخل في صلب الموضوع، وركزوا معي على عنوان المقالة : يبدو أنه صرخة على لوحة ؟ هذا ادعاء الكاتب. أما أنا فأزعم أن الرسام أراد أن يرسم صخرة فاختلط عليه الأمر فخربش خربشات، ولما سألوه ما هذه الخربشات، أجاب : إنها صرخة.

    بلغة الرياضيات : يوجد تطبيق تبدالي بين المجموعتين "الصخرة" و "الصرخة". ألم أقل لكم منذ البداية : لماذا التبسيط طالما التعقيد ممكنا ؟

  • عين طير
    الخميس 25 أكتوبر 2018 - 11:13

    في تعليق الليلة الماضية، ثمة خطأ في الجملة بالفرنسية، استشعرته حينها، ولكنني عجزت أن أتبينه في زحمة التعليق، والصحيح هو :
    ? Pourquoi faire simple quand on sait compliquer
    وهو قول مأثور يقوله الفرنسيون لمن يتيه في التعقيد والشيء بسيط. ولقد استشهدت به للتأكيد على أن ظاهرة التعقيد إنسانية، ولا يفلت منها إلا الموهبون، كما لا حظ ذلك معلق على مقالة كاتبة نشرت على هذا الموقع تحت عنوان "صديقي المثقف .. بسط لأقرأك". وأعتقد أنني حققت لها غرضا، بأن بينت في تعليقي ذاك أن "الصرخة" ما هي إلا "الصخرة"، بمعنى أن مقالة الكاتب صخرة جوفاء، عبارة عن كلمات جوفاء طنانة، تنزع إلى لغة الخشب، باعتبار لوحة الرسام المشار إليه خشبة عليها خربشات … رآها الكاتب فنا. ولقد اعتمدت التفكير الرياضي، وهو هين علي، لأثبت بالخلاصة أن البساطة ليست متاحة لأي كان.
    وفي تلك الخلاصة، ترجمت كلمة transposition بــ"تطبيق تبدالي"، وهو مفهوم معروف في الجبر، أعني به تطبيق على مجموعة منتهية، يبدل عنصرين أحدهما مكان الآخر تاركا بقية العناصر ثابتة. بمعنى أن حرف "ر" في "الصرخة" استبدل بــ"خ" وحل محله، فكانت "الصخرة".

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 7

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين