"كرنفالات العالم".. احتفاليّات صاخبَة تستنشق عبق التاريخ

"كرنفالات العالم".. احتفاليّات صاخبَة تستنشق عبق التاريخ
السبت 11 فبراير 2017 - 05:00

مع بداية شهر فبراير الجاري طفقت تنطلق في العديد من بلدان ومناطق العالم تظاهرات احتفالية تقليدية، متوارثة كبرى صاخبة ضاربة في القدم، تُعرف بـ”الكرنفالات”..من أين تستمدّ هذه التقاليد أصولها؟ ما هي منابعها، ورموزها وسرّ شهرتها، وبهرجتها، والإقبال عليها بهوسٍ وجنون في أماكن تواجدها وانتشارها..؟!

البهرجة والإمتاع

لقد حالَ الحوْل، ودار الزّمان وانطلقت وتعالت الموسيقى الصّاخبة تصدح في مختلف كرنفالات العالم. أقبل موسم الاحتفالات، وإشاعة الفرح، والمرح، والرّقص. لا مجال للحزن، والأسى، والشجن بين هذه الجموع الغفيرة التي تغني للحياة، فتتوارى معها أحزانها وأتراحها، ومآسيها، في خضمّ هذه الأجواء الاحتفالية.. ترى الوجوه باشّة هاشّة ضاحكة، والقلوب تخفق سعادة وهناءة وحبوراً، وتلمح الأيدي وهي تمتدّ في شجون نحو أخرى لتصافحها مهنّئة باستقبال موسم الكرنفالات، وأجواء الجنون والفنون، والبهرجة والإمتاع.. كلّ مدنهم، وحواضرهم الكبرى تسبح في ثبج فضاء أثيريٍّ بهيج، وأضواء النيّون تنتشر في كل مكان، والزّخارف والمجسّمات المزركشة، والألوان الزاهية تملأ الشوارع الكبرى والمحجّات.. تعاقر الكؤوس بعضها بعضاً، تنفرج الأشداق من القهقهات، وتزيغ العيون، وتتيه العقول. الكلّ يرقص متمايلاّ، مترنّحاً، في جنون، ويأتي العناق تلو العناق الصادق والزائف، والدافئ الزائد يتحوّل إلى نار كاوية، وتدور الأكواب الدهاق، والصّحون الشهيّة الممتلئة تحشو البطونَ المنتفخة بالطعام المزّ، والشراب المرّ، والحديث ذو شجون.. يفرحون، يمرحون، يصيحون ويهللون..على إيقاعات موسيقى السّامبا المدويّة، الكلّ يصيح، ويضحك جذلاً بحلول الموسم الكرنفالي السعيد، منتشياً على سواحل ريو دي جانبيرو، وكانكون، وميامي، وجزر الكناري بأرخبيل الخالدات، وضفاف مدينة البندقية، الكلّ ينشد السعادة في عالم مشحون بالبؤس والشقاء.

في الجانب الآخر من العالم

في الجانب الآخر من العالم، أفواج هائلة من البشر، من شيوخ، وأطفال، ويتامى، وثكالى، يفرّون على غير هدىً، بعيداً عن هول الحروب المقيتة، وشرور ويلاتها، يهربون بجلدهم عن التطاحنات الكريهة، عن الهيجاء اللعينة التي أصبحت تملأ حياتهم، وتحيلها إلى جحيم مقيم، ينطلقون في أرض الله الواسعة، وفى كلّ وادٍ يهيمون، يركبون قوارب مطاطية هشّة، يصاحبهم على ظهرها الموت الزّؤام.. ينطلقون بدون وجهة إلى حيث لا يعلمون..يلفّهم البرد القارس الزمهرير، ويغطيهم الثلج الصقيع المتكاثف، ويمزّق أوصالهم الطّوى، ويغلفهم البؤس، وتسكنهم الكآبة… عند المحتفين والراقصين هناك دائما فائض، هناك دائما زيادة، هناك دائما تضخّم، ولكن ثمة دائماً بالمقابل عوز وخصاصة وفاقة واحتياج، وقبض من ريح، وحصاد من هشيم، ولفحة من برد لاسع، قلّت الحروب وهدأت، وخبا أوارُها، ونمت، واستشرت بالمقابل الفتن، والقلاقل والثورات في مختلف أصقاع المعمور، ما عدا في أماكن بعينها من العالم حيث لا بدّ أن تظل فيها رحى الحرب الممقوتة تدور بثقالها وثفالها إلى أجلٍ غير معلوم ..في تلك البقعة النائية من العالم حيث القوم الذين نصبوا العجل الذهبيّ في أعلى الرّبوة، وأولوا لـ”الهداية” ظهورهم، ووُهِموا بالنصر، أنا وأنت وهو والآخرون يعرفون أين تقع هذه الأرض الطيبة الطاهرة..إنها حيث يتسلل الصيّادون بفخاخ البشر، وحشيتهم أحدُّ فتكاً من أنياب الذئاب، وكبرياؤهم أشدُّ عمىً من الآجام المظلمة، لننسَ أو لنتناسى قليلاً.. المحتفون في زخم الكرنفالات الهوجاء يتجاهلون هذه الأحداث… يقولون كفانا تذمّراً وتنطّعاً وشكوىً، فلنعانق، ونعاقر ونحتفي، ولنضحك ولنمح من ذاكرتنا كلَّ شيء ولو إلى حين، ولنجعل بيننا وبين الأحزان والأشجان برزخاً واسعاً، ويمّاً عميقا.

أشهر الكرنافالات وأكثرها سحراً

ألا تراهم هذه الأيام على شاشات المشواف في كل رجءٍ من أرجاء العالم مسرعين ومهرولين في الشوارع والأزقّة والدّروب، وفوق البسيطة وتحتها، وفي الفضاء والبحار، والصحارى والقفار؟. إنّهم يتسارعون على غير عادتهم لأخذ مكانهم في الحفل البهيج لكرنفال البرازيل الشهير وأكثرها سحراً في مدينة “ريّو دي جانيرو للمشاركة في استعراضات مواكب العربات المزركشة الكبرى، وارتداء الأقنعة الغريبة، ومشاركة الأجواق الموسيقية التي تسير كلّها خلال هذه الاستعراضات الضّخمة على وقع أنغامِ متواترة تتميّز بالخصوص بموسيقى السّامبا الصّاخبة، إلى الشوارع الفسيحة التي تُعرض فيها هذه المواكب المبهرجة، حيث تنتهي مسيرتها في مكان يسمّى “امسو درومو”، يشيّد خصيّصاً في ريّو دي جانيرو لهذه الغاية بالذات.

في مناطق أخرى من العالم نجد كرنفالات مدينة “برّا نكييّا” الكولومبية، وجزيرتي “ترينيداد وتوباغو”، والعديد من بلدان أمريكا الجنوبية الأخرى، وفى مناطق الكرايب؛ فضلا عن كرنفالات “ماردي غراس” في “نيو أورليانز” الأمريكية “التي تملأها أجمل العربات المزدانة؛ فضلاً عن ارتداء أغرب ما يمكن أن يصل إليه الخيال في عالم الأقنعة من “المتوجّهين” أيّ من (لابسي الوجوه والأقنعة المستعارة). نجده كذلك في الأرخبيل الكناري (جزر الخالدات) خاصّة في جزيرتي”تينيريفي” و”غران كاناريا”، حيث يختلط الحابل بالنابل في هذه الجزر المتناثرة في بحر الظلمات التابعة اليوم لإسبانيا والمحاذية لسواحل المغرب الجنوبية. في هذه الكرنفالات الكنارية تختلط بعض تقاليد المناطق الاستوائية بالعادات الشعبية الأوربية في مجال الرّقص والغناء. وناهيك عن أفخم وأرقّ وأعرق الاحتفاليات التي تُقام في هذا القبيل، وهي مهرجانات مدينة “البندقية” الإيطالية وما يتخلله من عروض وأزياء غريبة، وأقنعة مثير، ورقصات مقنّعة، وحفلات تنكّرية، وموسيقى، وغناء، وبهرجة لا حدود لها، وتعود جذورها إلى القرن الحادي عشر الميلادي.. ولا ينبغي أن يعزب عن بالنا كرنافال مدينة “قادس” الإسبانية الشهير، وهي مسقط رأس الشاعر الإسباني الذائع الصّيت رفائيل البرتي .

ونحطّ الرّحال بعد طول ترحال في مدينة “بلنسية” الإسبانية، التي يقام فيها كلّ سنة كذلك مهرجان احتفالي آخر كبير يُسمّى “فَايَاسْ”، تصنع خلاله العشرات من المجسّمات والأقنعة والصّور من الخشب أو الكارتون المقوّى، ثم تلوّن جميعها بألوان وصور زاهية مزركشة. وعند نهاية هذا المهرجان الصّاخب تُحرق جميع القطع التي صُنعت والتي قدُّمت أثناء العروض باستثناء قطعتين اثنتين فقط تنجوان من لهيب النار الحارقة وتحظيان بالعفو عليهما خلال هذه العروض المثيرة.

لا مجال للحُزن والشّكوى

ولا مجال في هذه المهرجانات والاحتفالات والكرنفالات للحزن والشكوى والأنين أو للعزلة والانزواء، فقد استمرّت هذه التقاليد قائمة حتى في أحلك وأقسى الظروف التي مرّت بجميع هذه البلدان، باستثناء حالة إسبانيا على وجه الخصوص، حيث كانت هذه الاحتفاليات الكرنفالية محظورة على عهد الجنرال فرانكو.

تعتبر البرازيل إذن بالفعل وبدون منازع من أكبر وأشهر بلدان العالم احتفالاً بالكرنفال. وقد أصبح هذا التقليد في هذا البلد الشاسع والمترامي الأطراف عادة لصيقة بحياة كلّ برازيلي. وكرنفال ريّو دي جانيرو عالم آخر صاخب متعدّد الألوان والألحان والهرج والمرج، والصّخب والدّأب واللّجب، تمتزج فيه كلّ أنواع البشر وأصناف الأعراق وفسيفساء الأجناس على اختلافها؛ فضلا عن العديد من ضروب الأزياء الملوّنة والمزركشة والمثيرة، والأقنعة على اختلاف أشكالها، في بلد خلاسيّ ومولّد ينحدر سكّانه من كلّ الإثنيات والأجناس .

هذه التظاهرات الفنية والشعبية تستمدّ أصولها من تقاليد عريقة ضاربة في القدم، إذ تنحدر كلمة “كرنفال” في اللغة اللاتينية السّوقية (عامية القرون الوسطى) من مصطلح “كارني ليفار”، التي تعني أهجر أكلَ اللحم، أو تجنّب أكلَ اللحم؛ وذلك بسبب الاحتفالات المبالغ فيها، حيث كانت تقدّم فيها جميع أنواع المأكولات ببذخ كبير، خاصة اللحم في تواريخ كان محظوراً فيها أكل اللحم عند المسيحييّن (الكواريسما).

وقد انتقلت عدوى الاحتفالات بالكرنفالات من البرازيليين وغيرهم من شعوب أمريكا اللاتينية إلى بعض الشعوب الهندية والمولّدين الذين ينحدرون من أصول إفريقية أو أسيوية أو من مناطق أخرى من العالم.

الأقنعة أو الوجوه المستعارة

تُعتبر الأقنعة من أولى الوسائل التي يتمّ استعمالها خلال الاحتفالات بهذه الكرنفالات، ولقد وجد الإنسان منذ أقدم العصور في العديد من مناطق العالم في هذه الوجوه المستعارة أو الأقنعة والكرنفالات وسيلة تعبيرية أثيرة، ومتعة مثيرة، نظراً لما يختلج في نفسه من مشاعر، ورغبات، وفضول واستفسارات، وذلك عندما يخفي وجهه إمّا للدّفاع عن نفسه، أو لإحياء عوائده المتوارثة باحثاً عن تفسير أو تبرير لما يساوره من شكوك، وما يعتمل في نفسه من خوالج وتطلّعات. ويأتي ظهور الأقنعة في العديد من الحضارات والمجتمعات القديمة للتوصّل إلى إمكانية تجسيد صور وموجودات أخرى كانت في غالب الأحيان بالنسبة للإنسان القديم بمثابة رموز ذات قدرات هائلة، وطاقات خارقة، ويفرض الإنسان بواسطة ذلك سيطرته على المحيطين به. ومن ثمّ نجد في مختلف الثقافات القديمة أنّ “القناع” كان يرمز إلى القوّة، والسّلطة والجبروت لإثارة الرّعب والهلع والفزع في الآخرين.

والأقنعة التي كانت تستعمل في الرقصات وبعض الطقوس القديمة لم تكن تكمن قيمتها في حدّ ذاتها كأقنعة، بل فيما كانت تقدّمه أو تشخّصه أو تجسّده من صور ومجسّمات. ومازالت هذه التقاليد الشعبية المتوارثة حاضرة في معظم بلدان أمريكا اللاتينية، إلاّ أنّ معناها الرمزي القديم تحوّل اليوم إلى مظاهر احتفالية. واحتلّت الأقنعة التي ارتبطت باحتفاليات المهرجانات والكرنفالات على امتداد مختلف مراحل تاريخ الحضارات القديمة السابقة للوجود الكولومبي في القارة الأمريكية مكانة مرموقة، خاصّة في مجال الفنون الشعبية، مثل الرقص، والغناء، والفلكلور وبعض التظاهرات القديمة التي ترجع أصولها إلى فجر التاريخ. ويتفنّن كل بلد من بلدان أمريكا الجنوبية في صنع أشكال عديدة متباينة من الأقنعة التي لها صلة بتاريخ هذه البلدان وبالأحداث التي تعاقبت عليها. وقد أصبحت هذه الأقنعة اليوم تشكّل جزءاً أساسياً من التراث الثقافي والحضاري لهذه البلدان.

وهذه الوجوه المستعارة هي من الغِنىَ والتنوّع، مّما يبعث على الإعجاب والحيرة، إذ ثمة آلاف الأشكال والأحجام ذات الرموز والإيحاءات المتعدّدة، وتعكس كلها عادات وتقاليد السكّان الأقدمين لهذه المنطقة من العالم. وقد خضعت هذه الأشكال لتأثيرات واضحة بعد اكتشاف أمريكا، وتظهر فيها قوّة الإبداع لدى السكان الأصليين وعفويتهم، وهي تعبّر عن إحساس مرهف بالتعامل مع الطبيعة ومحاولة فهمها وتفسيرها.

إنّ المسرحيات والمهرجانات التي عرفتها الحضارة الإغريقية القديمة، وكذا مناطق أخرى من العالم في آسيا، خير دليل على مدى أهمية هذه الوسيلة في المجتمعات الغابرة. وقد استعمل سكان أمريكا هذه الأقنعة كذلك في المعارك والحروب والمواجهات التي كانت تنشب في ما بينهم في مختلف حقب التاريخ، كما استعملها السّحرة والمشعوذون في التطبيب، وطرد الأرواح الشرّيرة. وهناك أساطير تحكي أنّ الحكام في المجتمعات الهندية عندما كانوا يصابون بمرضٍ أو أذىً أو علّةٍ كانت تُغطّى وجُوهُهم بأقنعة معيّنة معروفة عندهم، ولا تُنزَع إلّا إذا مات حاملها أو شفي من علّته، كما كانت لديهم أقنعة خاصّة بالمراسيم الجنائزية، حيث كانوا يدفنون موتاهم من عليّة القوم بها. وكان المحاربون الذين يخرجون للدفاع عن القبيلة أو الجماعة يرتدون بعض الأقنعة التي تحمل صور الصقور، أو النمور وبعض الحيوانات المفترسة الأخرى لإثارة الرّعب والذّعر في قلوب خصومهم، ذلك أنّ ضراوة تلك الحيوانات كانت معروفة عندهم. وكان هؤلاء المحاربون في أحيان أخرى لا يكتفون بوضع الأقنعة وحسب، بل كانوا يتسربلون بجلود هذه الحيوانات وريشها. وكان النمر الأرقط يحظى بأكبر نصيب في هذه الحالات.

وبعد أن استقرّ الإسبان في القارة الأمريكية أصبحت الأقنعة تستعمل في الاحتفالات والمهرجانات التي تقدّم فيها الرقصات التي تذكّر بالصّراعات والمواجهات القتالية، سواء بين السكان أنفسهم أو بينهم وبين الحيوانات المفترسة. وصارت هذه الأقنعة شيئا فشيئا تكتسب أشكالاً جديدة استقدمها المكتشفون معهم من عالمهم العتيق ونشروها بواسطة المبشّرين. ومن هذه الأقنعة والأردية تلك التي كان يرتديها الإسبان خلال الاحتفالات التي تجسّد مواجهات وحروب “المسلمين والنصارى” أيام الحملات الاستردادية التي خاضها الإسبان ضد معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية في آخر عهودهم بها. وتعرف هذه التظاهرات باحتفالات “موروس إي كريستيانوس”، ومازالت تُقام حتى اليوم في المنطقة الشرقية من إسبانيا، خاصة في مدينتي” بلنسية” و”ألكُويْ” وسواهما من المدن الأخرى، خاصة في مدريد التي استحدث بها هذا التقليد لأوّل مرّة عام 2002 خلال احتفالات هذه العاصمة بعادات وتقاليد المدن الإسبانية الأخرى. وانتقل هذا التقليد في ما مضى مع الإسبان إلى معظم بلدان أمريكا الجنوبية التي أصبحت هي الأخرى تقيم هذا النّوع من الاحتفالات حتى اليوم في المهرجانات الشعبية والكرنفالات.

أشكال الأقنعة وأنواعها

أدخلت على أشكال الأقنعة التي استقدمها الأوربيون معهم إلى هذه البلدان إضافات عدّة، إذ طبعت بطابع كل بلد وما تمليه تقاليده، ومعتقداته، وحضارته. وقد انتقلت هذه الأشكال الجديدة من جيل إلى جيل.

ويتسابق الصنّاع التقليديون في صنع هذه الأقنعة التي ما فتئ الإنسان “المتحضّر” يستعملها هو الآخر حتى اليوم في حفلاته التنكرية التي تضرب أصولها في التاريخ القديم. وخلال الحفريات الأثرية في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية عثر على أنواع عديدة من هذه الأقنعة المصنوعة من مختلف المعادن، كالذهب والفضّة والنحاس والسبج والأحجار البركانية، والأحجار السوداء الزجاجية والجزع، وهو نوع من العقيق، والمحارات، والصدف، واليشم الذي كان يستعمل كثيراً في تزويق، وتنميق، وترصيع مختلف هذه الأقنعة. وبالإضافة إلى وظيفته الجمالية والطقوسية كان القناع يحظى عند السكان الأصليين باحترام كبير.

وهناك ضروب أخرى من الأقنعة الخفيفة التي يحملها أصحابها في المهرجانات الشعبية، وهي مصنوعة من الورق المقوّى المبلّل الذي يمكن طيّه بسهولة وإعداده بمختلف الأشكال المطلوبة، ثم يوضع في مكان حارّ ليجفّ وأخيراً يلوّن حسب نوعية الحفلات أو الرّقصات أو المناسبات.

وتجتهد القرائح الشعبية في صنع أغرب الأقنعة والأردية، والتي يكون لها وقع وتأثير في الجماهير. وتصنع أقنعة وقبّعات عريضة مزيّنة بريش الدواجن، والطيور، والكواسر النادرة. وقد اعتاد السكان في العديد من المناطق على طلاء أبدانهم بخطوط ملوّنة، وتغطية وجوههم بأقنعة حيوانية، ويبدؤون في خوض غمار معركة حامية بين قوّى الخير والشرّ، حيث تكون الغلبة في آخر المطاف للجانب الخيّر على الجانب الشرّير، فتشيع السعادة ويعمّ الحبور جميع الحاضرين.

وهناك نوع آخر من الأقنعة التي لا توضع على الوجه بقدر ما تستعمل في بعض الحفلات والرقصات، حيث يتمّ وضعها للزينة، وهي تصنع من جذوع الشجر ولحائها ويقوم الفنان بنحتها بمختلف الأشكال المتفاوتة بين الفرح والحزن، والملهاة والمأساة والدعة والعنف. ومازال هذا النوع من الإبداع الفنيّ مستعملاً بكثرة في مختلف بلدان أمريكا الجنوبية. كما تصنع من جذوع الشجر كذلك تماثيل كاملة لأناس في أوضاع مختلفة (صياد، إسكافي، عازف على القيثار..إلخ). وقد اعتاد سكان هذه المناطق على لمس اللحى والشوارب التي تصنع لهذه التماثيل، إذ يعتقدون أنّ في ذلك مجلبة للسّعد وحسن الطالع لهم. وهناك أقنعة تصنع خصّيصا لتقديم رقصات في مواسم معيّنة تؤرّخ لأحداث مشهورة في تاريخ هذه الشعوب، كالاحتفالات التي تقام للشمس، والأهرامات، أو البحر، أو لبعض تقاليد الصّي. وتستعمل في مثل هذه الحالات رؤوس الحيوانات المحنّطة، مثل الأيّل أو النمر، ثم تلبس هذه الأقنعة على رؤوس الراقصين الذين يقومون بدور الحيوانات التي تركض في أعداد هائلة في مختلف الاتّجاهات مذعورة، محاولة الفرار من سنان الرّماح والنبال التي تطاردها وتنثال عليها من كل جانب، ثم تذعن أخيراً وتخرّ أمام الضّربات الفاتكة وتهلك في تشنّج عضلي وارتعاش. وتذكّرنا هذه الصّورة بالبيت العربي القديم الطريف الذي يقول: تكاثرتِ الظباءُ على خداشٍ / فما يدري خداشٌ ما يَصِيد..!

*كاتب، وباحث، ومترجم، وقاصّ من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا .

‫تعليقات الزوار

6
  • أبو هيام
    السبت 11 فبراير 2017 - 05:59

    الإسلام حرم مثل هذه الكرنافالات لأنها تجمع مختلف أنواع الرذيلة و المجون وشرب للخمر والعري والإختلاط بالخصوص في الدول الغربية ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.

  • Moha
    السبت 11 فبراير 2017 - 06:55

    Si Al Kattabi nous émerveille toujours par ses articles, son style et sa grande connaissance des sujets traités. On sort toujours avec quelque chose de merveilleux de ses dires….il réchauffe nos cœurs par son choix des mots et de style bien affiné,
    Merci et Allahyardhi alik Ammiss N tmourth ino.
    Un grand bravo et merci pour continuer à éclaircir nos compatriotes….wassalam

  • سعيد امازيغ
    السبت 11 فبراير 2017 - 09:12

    ونحن كدالك كان لدينا مهرجانات اهل المدشر
    اتدكر في الصغر
    في ناير كانت النساء والاطفال يتجمعن في مكان معروف للعب والمرح
    بين الاشجال ، ويربطون الحبال بين الاشجار
    ويطهون الاسفنج
    كانت حياة بسيطة وسعيدة بين الاهالي
    وبعد دالك جاءت السلفية وحرمت كل شيء الا البؤس

  • Rinace
    السبت 11 فبراير 2017 - 10:34

    انه الرءس مال اللا مادي..بمردوده الايجابي بشتى اوجه..طبعا له مردود مادي…ولكن اهم مافيه هو خلقه لموجات الطاقة الفراءحية…..في صغرنا كنا اكتر اهتماما وانتضارا لعيد تافسكا..من الكبار ليس لاننا اعلم منهم بمنزلته الدينية وليس طمعا في اللحم…انما سعيا لما يخلقه كرنفال بيلماون من اجواء غير عادية….وطبعا فراءحية….
    .لما لا تسعى مدينة في المغرب كاكادير متلا لان يكون لها ( امسو درومو ) الخاص بها…..المغرب اكتر البلدان في العالم امتلاكا للرءس مال اللامادي…وشعبه من اكتر الشعوب قدرة على خلق اجواء الفرح…

  • يوسف بوسان
    السبت 11 فبراير 2017 - 15:11

    لدي مشروع كرنفال اشتغلت عليه منذ سنوات بامكانه ان يؤتث المشهد الفني والثقافي بالمغرب وان يكون قيمة مضافة وضعته لدى الجهات المختصة بالشان الثقافي في مدينة الصويرة ولازلت انتظر…

  • Magharibi
    السبت 11 فبراير 2017 - 19:15

    Comme l'a bien dit dans son commentaire le numero 3, au Maroc il y avait des fetes, des festivals, des moussems et une joie de vivre dont nous ont prives les salfistes qui se sont infiltres meme dans les villages les plus recules! Les fetes familiales (dans beaucoup de milieus pauvres et classes moyennes) se sont transofrmees en funerailles ou il est interdit de danser ou d'ecouter de la musique, etc…!

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس