الأمازيغية والاستعمار الفرنسي (22) .. المغاربة وفرصة الانعتاق

الأمازيغية والاستعمار الفرنسي (22) .. المغاربة وفرصة الانعتاق
الخميس 7 يونيو 2018 - 00:05

يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة؛ لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد، وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة.

30/22.. المغاربة يفوتون فرصة انعتاقهم إبان الحرب الكبرى

بدأت القوات الغازية الفرنسية تكتسح التراب الوطني بصفة متواصلة سنة 1907، فاحتلت مواقع إستراتيجية، وأبرمت تحالفات سرية مع بعض الأعيان الخونة في جهات مختلفة من البلاد، وواجهت مقاومة فعلية لا يستهان بها رغم ما كان ينقص هذه الأخيرة من تنظيم وتحضير يرقى إلى مستوى التحديات. وهكذا ما بين احتلال الدار البيضاء يوم 7 غشت 1907 والهجوم على خنيفرة يوم 24 يوليوز 1914، خاضت قوات الاحتلال ما لا يقل عن 200 معركة مع القبائل المغربية المجاهدة. وبمجرد إعلان الحرب والتعبئة العامة بفرنسا يوم 2 غشت 1914 تأهب الجنرال ليوطي لمواجهة احتمالات الوضع الجديد وانعكاساته محليا على المغرب. ولا يسع المرء إلا أن يتساءل كيف استطاع ليوطي خلال الحرب العالمية الأولى –التي كانت تسمى حينها الحرب الكبرى- الحفاظ ليس على المواقع المغربية التي احتلتها قواته إلى غاية اندلاع الحرب فحسب، بل تم تعزيز هذه المواقع على أكثر من واجهة؟ هذا في وقت كان ليوطي مرغما على التخلي عن عدة كتائب عسكرية وإرسالها فورا للدفاع عن التراب الفرنسي في مواجهة الجيش الألماني، وبالتالي انسحابها من المواقع التي كانت تحتلها بالمغرب. والأدهى من ذلك أن ليوطي استطاع خلال هذه الحرب أن يجند 34000 مغربي ليدافعوا عن فرنسا! كما أن عددا مماثلا من المغاربة التحقوا في المدة نفسها بالتراب الفرنسي ليساهموا في الإنتاج الحربي الفرنسي ويقدموا خدمات أملتها ظروف النزاع الأوربي المشتعل! هذا مع العلم أن نار المقاومة الجهادية في المغرب لم تخمد؛ ولعل أبرز ملاحمها في بداية الحرب الكبرى كانت هي معركة الهري الشهيرة التي جرت يوم 13 نونبر 1914 تحت قيادة موحا وحمو الزياني.

والغريب في الأمر أن التدهور الذي سجله وضع الاحتلال العسكري الفرنسي للمغرب من جراء أحداث الحرب الكبرى المباغتة كان يبدو وكأنه تدفق لإمدادات عسكرية جديدة على المغرب! والحقيقة أن المغاربة في الواقع كانوا ضحايا لحرب دعائية طاحنة، استسلموا تحت وطأتها لإرادة المستعمر، وذلك رغم علمهم بضعفه؛ بل أكثر من هذا، لقد هبوا للدفاع عن أرضه والدفاع عن حريته غير آبهين بمصير بلادهم في ظرف دقيق كان يسمح موضوعيا بإعادة ترتيب الأوراق لصالحهم. قد تبدو هذه من مفارقات التاريخ، لكن إذا ظهر السبب بطل العجب…

مناورات السياسة العسكرية

قبل إعلان الحرب بأسبوع، توصل ليوطي ببرقية من وزارة الشؤون الخارجية تقول: «إن النزاع الدبلوماسي الراهن سيقودنا باحتمال كبير إلى الحرب». وهكذا بدأت تعليمات الحكومة الفرنسية تنهال على الإقامة العامة بالرباط، وتلزم ليوطي بأن يحتفظ بالحد الأدنى الضروري من القوات العسكرية الموجودة تحت قيادته، وأن مصير المغرب أصبح مرتبطا بمصير اللورين في المنطقة الشمالية الفرنسية، وبالتالي وجب عليه إعادة انتشار ما تبقى من قوات الاحتلال بالبلاد. وكان ذلك يعني الانسحاب من المواقع الأمامية والاحتفاظ فقط بالمدن الشاطئية، مع إضافة غير إجبارية تتعلق بمراقبة خط القنيطرة–فاس-مكناس-وجدة قدر الإمكان بهدف مواصلة تيسير الاتصال بمستعمرة الجزائر. وكانت التعليمات تشير كذلك إلى نقل الفرنسيين والأجانب المتواجدين وسط البلاد إلى الموانئ تحسبا لترحيلهم الوشيك إلى أوربا. كل ذلك بلهجة صارمة فرضتها حالة الحرب القائمة في أوربا وليست «التهدئة» التي اعتاد ليوطي على ممارستها في المغرب. والقراءة المتأنية للتعليمات التي توصلت بها الإقامة العامة تفيد بأن الانسحاب من المغرب كان على رأس الاحتمالات الواردة، وأن الاحتفاظ بالمحمية المغربية كان أقل ما يمكن الانشغال به في ظروف الحرب الأوربية المتداعية. وها هي وزارة الحربية الفرنسية تبعث ببرقية مستعجلة تعزز فيها ما جاء في برقية وزارة الخارجية، وبلهجة أكثر صرامة، مبينة أنواع القوات التي يجب إيفادها على جناح السرعة: “إنه من الضروري والممكن أن تمدوا الجيش المتروبولي بجميع كتائب قناصة الخيالة، والزواوية، والمشاة، والقناصة الجزائريين والتونسيين، وفرق المدفعية”.

اجتمع ليوطي بالمرؤوسين المقربين إليه وعرض عليهم خطته العسكرية المخالفة لأوامر باريس، وبعث بتقرير إلى الدوائر الحكومية بفرنسا يدافع فيه عن وجهة نظره: «إنه من المستحيل الانسحاب من المواقع التي نحتلها وسط البلاد. إذا حدث ذلك سينجم عنه لا محالة انهيار مهول يولد ارتفاعا في جرأة خصومنا وإحباطا في معنويات المغاربة الذين خضعوا فعلا لسلطتنا. وسيشكل ذلك فرصة سانحة لانتفاضة عارمة تسحب البساط من تحت أرجلنا، وستنهال علينا الضربات على امتداد كل الجبهات، وبالتالي تلحق أضرارا بليغة بمختلف الكتائب المنسحبة التي في هذه الحالة سوف لن يصل منها إلى المدن الشاطئية سوى أعداد منهكة تاركة وراءها أمواتها وعتادها». لكن ما هو البديل؟ لقد جاء اقتراح ليوطي موافقا في المضمون لتعليمات باريس ومخالفا لها في الشكل، إذ استطاع فعلا الحفاظ على المراكز الأمامية وعزز ذلك بإعطائه للمغاربة الانطباع بأن الحرب الدائرة في أوربا ما هي إلا فرصة إضافية لتقديم البرهان عن قوة فرنسا العسكرية، وأن الوضع في المغرب سيشهد انعكاسا لذلك؛ وأما التكتيك الذي لجأ إليه في الامتثال للتعليمات الباريسية فكان ما أسماه «البيضة الفارغة»، أي تلك البيضة التي أفرغت من محتواها عبر ثقب ضيق يكاد المرء لا يميز وجوده بحيث تبدو البيضة معه وكأنها فعلا بيضة سليمة ومملوءة، على غرار ما تفعله بعض الثعابين عند ارتشافها مح البيضة وتركها قشرتها سالمة… وهكذا استطاع ليوطي إرسال كتائب متتالية إلى ساحة الوغى بفرنسا وأضاف إليها آلافا من المغاربة «المحميين» للدفاع عن فرنسا…

ممارسة السياسة الفولكلورية

كان لا بد من توجيه أنظار الرأي العام المغربي إلى أشياء تشغل باله عن التطورات التي تعرفها ساحة المعارك في أوربا والهزائم التي تكبدتها فرنسا في عقر دارها، وإلا فإن «هيبة» سلطة الحماية ستنهار بكل تأكيد. لذلك عمد ليوطي إلى خلق أوراش فولكلورية وأنشطة متنوعة تمويهية في كل الجهات التي كانت توجد بها مراكز هامة تم الاستيلاء عليها وتوطد تواجد السلطات الاستعمارية بها. لقد شنها ليوطي حربا دعائية شعواء على المغاربة ما كان لنظام الحماية برمته أن يصمد بدونها. وفي ذلك تأكيد أورده الجنرال ليوطي نفسه: “لقد وضحت في كثير من المراسلات أن جوهر سياستي في المغرب خلال سنوات الحرب في أوربا هو تعويض الإمكانات العسكرية الضعيفة بإمكانات بديلة ممكنة، وذلك بهدف الحفاظ على الأمن والاستقرار خلف تحصيناتنا الأمامية الهشة على امتداد جبهات ظلت مهددة”.

وكان أول معرض دشن به ليوطي سلسلة معارضه الدعائية هو معرض الدار البيضاء صيف 1915 -ويسود الاعتقاد بأن موقعه هو الموقع نفسه الذي يشغله معرض الدار البيضاء الحالي-. لقد حمل هذا المعرض اسم «المعرض المغربي-الفرنسي التجاري- ألفلاحي- الصناعي» الذي تم إعلان تنظيمه بأسابيع قبل تدشينه في إطار حملة إشهارية صاخبة. وكان تعليق ليوطي على أول تظاهرة من هذا النوع في عهد الحماية هو: «ألاحظ أن الأهالي بدؤوا من الآن يهتمون كثيرا بهذا المعرض، وهي فرصة لتحويل اهتمامهم عن انشغالات أخرى، وإني أتمنى أن يشغلهم المعرض لعدة شهور، نحن في أمس الحاجة إلى ربحها»؛ وطبعا لم يكن ينتظر من تلك المعارض والأوراش أي نتائج اقتصادية ذات أهمية، وإنما كان هدفها هو التعتيم والتضليل، وانتهاج ما كان يسميه سياسة «الحفاظ على الابتسامة» رغم قسوة الظروف وهشاشة المواقف. وظل التاريخ شاهدا على توفيق ليوطي في تطبيق خططه الهدامة بنجاح فاق كل التوقعات.

مواصلة السياسة البربرية

ورغم ظروف الحرب الكبرى وما كانت تستلزمه من تريث واحتراز فإن ليوطي لم يكف خلالها عن بناء ترسانته «القانونية» الهادفة إلى عزل القبائل البربرية عن بعضها البعض على أرض الواقع، وليس عن القبائل «العربية» التي نفخت فيها الدعاية الاستعمارية وجعلت منها مصاصة دماء الأمازيغ في إفريقيا الشمالية قاطبة لمدة قرون… وكانت النتائج الأولى للبحث الميداني الذي تم إجراؤه سنة 1914، وكذلك نتائج التجربة التأسيسية لـ«الجماعات البربرية» مخيبة لبعض آمال السلطة الكولونيالية، وبالخصوص في ما يتعلق ببعض الأعراف البربرية التي كانت لا تبدو منسجمة مع السياسة الاستعمارية على المدى البعيد. فما هو الحل؟ كانت البرغماتية المعتمدة بطبيعتها تلغي كل ما يتنافى مع أهدافها أو تعدل كل ما ترى تعديله متسقا مع المصالح الاستعمارية الإستراتيجية. وهكذا لما وجدت فرنسا من خلال نبشها الاستخباراتي في الأعراف والتقاليد البربرية أن هناك عرفا ينص على أن أراضي القبيلة لا يمكن بيعها للأجانب، وأن هؤلاء لا يمكن قبولهم في القبيلة بصفتهم ملاكين إلا في حالة تنازل جميع أفراد القبيلة المعنية عن حقهم -الذي يشبه الشفعة- في شراء الأرض المعروضة للبيع؛ وحتى في حالة عدم وجود فرد من القبيلة قادر على شراء الأرض، فإن العرف ينص على إمكانية لا محدودة زمانيا لاسترداده.. عندها تحفظ دهاقنة الاستعمار وقرروا أن أعرافا من هذا القبيل غير مقبولة، وبالتالي يجب إلغاؤها بحجة أنها بقايا من «تشريعات بدائية» لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقبل بها الدولة «الحامية» التي جاءت إلى هذا البلد لنشر «الحضارة» وإدخال «الإصلاحات اللازمة» من أجل ذلك…

وامتدادا لظهير تم استصداره بتاريخ 2 يونيو 1915، أصدرت الإقامة العامة بلاغا بتاريخ 22 شتنبر من السنة نفسها يقضي بجعل اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للجماعات البربرية، وبها يتم تدوين محاضر المداولات والجلسات إلى غير ذلك من كتابة العقود والمستندات…ويقول أحد المستشارين القانونيين (ريبو) موضحا سلامة هذا التوجه: “إذا تركنا هؤلاء البربر يستعملون العربية، فإنهم سيصيرون مسلمين ! وما معنى الإسلام؟ معناه هو إيقاف تقدمنا والوقوف في وجه مدنيتنا”.

*أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة

‫تعليقات الزوار

1
  • عبدالله المغربي
    الخميس 7 يونيو 2018 - 15:26

    التاريخ يشهد أن الأمازيغ المغاربة كانو في الصفوف الاولى للدفاع عن وطنهم لولا خيانة طبقة من المغاربة الذين وضعو يدهم في يد الإستعمار الغاشم و استفادو منه بامتيازات استمرت حتى مع خروج المستعمر أي بعد مغرب الإستقلال
    و في الأخير تخرج تصريحات من هنا و هناك تقول أن الأمازيغ غير وطنيين أليس هم من قدم شهداء في مناطق الريف و الأطلس ,هذا لا لايعني أن بقية مكونات المجتمع لم تناضل و لكن من باب الإنصاف فقط
    شكرا أستاذي د الطيب على تسليط الضوء على جزء مهم من تاريخ وطننا الغالي .

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة