قافلة تُنسي "الرحل الفقراء" بالرشيدية قهر الطبيعة و"مكر الحياة"

قافلة تُنسي "الرحل الفقراء" بالرشيدية قهر الطبيعة و"مكر الحياة"
السبت 25 يناير 2020 - 13:00

في بردٍ قارسٍ تنطلقُ سيارات رباعية الدفع واحدة تلو الأخرى..أربع عشرة سيارة محملة بالملابس والأغطية والمواد الغذائية والأدوية. في هذه الأرض الرطيبة التي يميل لونها إلى السواد، تحولت السيارات التي تحملُ السُياح إلى عربات تحملُ الدفء الإنساني.

هنا السيارات رباعية الدفع لا يشق لها غبار، تتكبد العناء لتخترق الأحجار والرمال المتواجدة طيلة المسالك الوعرة بمنطقة المعيدر، لتجد خيام الرحل القابعة في كل مكان حول سيدي علي تافراوت بإقليم الرشيدية.

سياراتٌ تأتي للمرة الرابعة على التوالي حاملةً معها جرعات من السعادة تُنسي الرحل وأطفالهم معاناة الفقر وقهر الطبيعة وقسوة المناخ الجاف، البارد شتاءً والحار صيفاً..تلفيهم يقاومون مكر الحياة بقلة حيلتهم، ينتظرون قافلة جمعية المعيدر للثقافة والتنمية ككل سنة، لتغدق عليهم بالعطايا والهبات وترسم البهجة على وجوهم وتخبرهم بأن الأمور لازالت بخير وبأن الإنسانية تقاومُ النُّضوبَ بقوة.

رجاء..فقيدة القافلة

قبل أن تنطلق القافلة، تم رفعُ الأيادي إلى السماء قراءةً للفاتحة ترحماً على روح الفقيدة رجاء أيت الحاج، التي ساهمت بكل السبل الممكنة خلال دورات القافلة السابقة.. شهاداتُ في حقها من هنا وهناك، ودعواتٌ لها بالرحمة والمغفرة.

لحسن تغلاوي، مقترح فكرة التأبين، يقول بلكنة عربية دارجة تغلب عليها اللهجة الأمازيغية، ونحنُ ملتفون حول النيران وهو جامعٌ يديه إلى صدره، إن الفكرة راودتهُ وهم عائدون من مراسيم دفن الفقيدة التي توفيت بتركيا شتنبر المنصرم، وأكد على أعضاء الجمعية بضرورة أخذ المسألة بمحمل الجد، “لأن ما قدمته للرحل، في الدورات الماضية، من حب وبهجة عن طريق اللعب مع أطفالهم ومعانقتهم، عطاء روحي لا يضاهيه كل ما قدم من أمور مادية”، حسب تعبيره.

نزهة بوعلام، المنحدرة من قيادة ألنيف، وهي تشارك في القافلة للمرة الثالثة، ترثي صديقتها رجاء والدموع تنهمر على خديها وبريق النيران ينعكس في مقلتيها، معترفة بالفراغ الذي تركته الفقيدة هذه الدورة، وتضيف أن مكانتها لازالت حاضرة وأن الذكريات لا تنتهي، مردفة: “رجاء إنسانة رائعة وأسعدني كثيراً أن هذه الدورة ستتضمن حفل تأبين لروحها”، وختمت حديثها وهي تمسح دموعها متمنيةً لها الرحمة والمغفرة.

قافلة السعادة

وضعت الجمعية في برنامجها خمسين خيمةً في نواحي منطقة المعيدر بسيدي علي. بمجرد أن تتوقف السيارات أمام خيام الرحل، لا شيء غير السعادة يبدو على وجوههم، يقبلون بخطى ثابتة للترحيب بالزائر.. يتهافتون بفرح حول العطايا، ويركضون لوضعها داخل الخيمة.

خدودهم حمراء وبشرتهم خشنة بفعل البرودة الشديدة، القبلُ والعناق تطاردهم من كل جانب، الحلويات توضع في أياديهم الصغيرة التي تلتهمها بقايا التراب الذي يلعبون فيه..الآباء والأمهات يبتسمون جميعاً كعربون عن السعادة البالغة..الشكر وعلامات الامتنان أقوى من كل شيء في أحاديثهم.

الكرامة لأطفال الرحل

حمو أيت القايد، رئيس جمعية المعيدر للثقافة والتنمية، بعيون براقةٍ ويدين متشابكتين، يستنكرُ ما يعانيه أطفال الرحل من تهميش وإقصاء، ويقول بفخرٍ إنه عاش تجربة الترحال عندما كان طفلاً، وهو يحسُّ بهؤلاء الأطفال أكثر من أي شخص آخر، ويضيف أن وضع الرحل كفئة مستهدفة بالدرجة الأولى هو اعتبار لأطفالهم، وطريقة للفت انتباه المسؤولين ليتمتع الرحل وأبناؤهم بحقوقهم الكاملة كأفراد داخل المجتمع، “لأن كرامة الإنسان أول ما يمكن الحديث عنه لنمر من خلالها إلى الحقوق الأساسية الأخرى”، وفق تعبيره.

أحد الرّحل بالمنطقة، الذين حطت عندهم القافلة، بلحيته المهملة وعلامات الذهول تطغى على قسمات وجهه دائري الشكل، يبذلُ جهداً مضاعفاً ليتواصل باللهجة الدارجة، يتحدث وأنفه يسيلُ من شدة البرد ورأسه ملفوفٌ بقطعة من الثوب (يتحدث) عن رغبته الجامحة في تمدرس أبنائه لكي تضمن لهم الكرامة.

“بغيت ولادي تا أنا يعيشو بحال ولاد الناس ويمشيو للمدرسة يقراو ويتعلمو”؛ لكنه يضيفُ بنوع من الانهزامية أن سبيل المدرسة صعب، لأنه يحتاج إلى نوع من التنقل، رغم أن بعض فعاليات المجتمع المدني وفرت مدارس متنقلة لأبنائهم.

الواقع المزري والأفق المسدود

الوسائل البدائية في السكن والطبخ والتنقل متواجدة في كل مكان. لا أثر للتمدن في خيم الرحل.. الملابس رثة ومتسخة.. التطبيب غير وارد في قاموسهم. صعوبة العيش تبلغ الذروة نواحي سيدي علي تافراوت.. ملامح الرحل أثقلها العياء وعبث بها الدهر.. الكلأ بالنسبة لهم موردٌ أساسي للعيش، لأن حياتهم رهينة بماشيتهم، وغالبية أطفالهم لا يعلمون إلا أسماءهم، ولا يعرفون في أي جهة توجد المدرسة.

“بغينا الحكومة تتدخل باشما كان، المهم تتدخل”، بهذه العبارة الصارمة، يتحدثُ أحد المشاركين، واصفاً واقع الرحل بـ”جهنم”، ويضيف بمرارة: “لا يمكن تخيل يوم واحد من أيام الرحل دون عناء”، وأردف رافعاً يديه: “الحمد لله لي كانين هاد ولاد الناس لي عندهم غيرة على الرحالة، وكاينضمو هاد القافلة كل عام، تبارك الله عليهم وخلاص”؛ ثم ختم حديثه بتشاؤمٍ: “ولكن راه هاد الجمعية ماتقدرش دير كلشي، لا بقا الأفق مسدود والحكومة مامسوقاش”.

تعلقُ إلهام الشبلاوي، الطالبة بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، التي تشارك في القافلة للمرة الأولى، بأنها تأثرت جداً بواقع الرحل ومأساتهم وفظاعة المشاهد.. “لم أتوقع أنني قد أصادف في حياتي واقعاً مزرياً بهذا الشكل”، تقول وبريق عينيها يبعث التأسف بشكل جلي.

ما لم تفكر فيه الحكومة!

تعالت الزغاريد والتصفيقات وآهات الفرح بكل أشكالها بعد أن كُللتْ تجربة مضخة مائية تعمل بالطاقة الشمسية لصالح الرحل بالنجاح، بغية تخليصهم من معاناة البحث عن المياه في البراري القاحلة الممتدة في كل الآفاق حول سيدي علي، وضمان الري لماشيتهم.

“ربي كايقول وجعلنا من الماء كل شيء حي”، بهذه العبارة المباشرة، يتحدث رئيس جمعية المعيدر للثقافة والتنمية عن فكرة توفير الطاقة الشمسية، التي أضحت ضرورة ملحة لتسهيل عملية الري لدى الرحل بمنطقة سيدي علي، وضخ المياه بشكل آلي دون عناء الحبل الذي كان يستعمل لجلب الماء من الآبار.

وزاد بجدية أن المشروع لم تفكر فيه أي حكومة من قبل.. “يأتي المجتمع المدني كمكمل للعمل الحكومي، ولكنه لا يمكن أن يحتل المكان كليةً ويتحمل صلاحيات السلطة التنفيذية كاملةً”، يورد وعيناهُ نصف مغمضتين وبابتسامة عريضة تنم عن الفخر بنجاح المشروع عملياً.

الإبداعُ في رحم الخيمة!

بدة يوسف، البالغة من العمر ما يربو عن الستين سنة، مرض السكري أضعف بصرها، تجاعيدها تصرخ لفك العزلة ورفع الحصار عن الرحل بالجنوب الشرقي، تنسج الخيوط بإبداع وتريث لتنتج زربية تفترشها في الخيمة، فلا شيء هنا منتظرٌ من السوق لأن سبيل الوصول إليه صعب جداً، بل ومستحيلٌ أحياناً.. تقول بلهجة أمازيغية سريعة إنها تبرعُ في النسيج إرثاً عن والدتها التي علمتها الحرفة منذ أن كانت تبلغُ من العمر تسعَ سنوات.

تتوقفُ عن عملية النسيج، تُخرج صور أبنائها من غشاء بلاستيكي، لتعرضها أمامنا ممسكةً إياها بيديها العجوزين اللتين تعلوهما قشرة سوداء بفعل قسوة البرد، تحكي لنا كيف تقاوم الوحشة ووجع النسيان بالتطلع إلى تلك الصور بين الفينة والأخرى.. بدة يوسف تنتظر أبناءها مثلما ينتظر الجميع الالتفات إلى الرحل بالمنطقة وتحسين أوضاعهم المزرية وضمان الكرامة لأبنائهم.

*طالب في المعهد العالي للإعلام والاتصال

‫تعليقات الزوار

17
  • Nouro
    السبت 25 يناير 2020 - 13:07

    الفقر لا تنسيه قافلة من هنا وهناك بل هو افة تنخر المجتمع لعقود…ان لم تكن تنمية وخطط طويلة الامد لردعه فسيبقى في خط تصاعدي حتى ولو تحركت جميع القوافل نحوه…تحياتي

  • أمير الجنوب
    السبت 25 يناير 2020 - 13:09

    الله إكون في عوانكم خوتي وتحياتي لهؤلاء الناس على هذه المبادرة

  • القرون الوسطى في 2020!!!
    السبت 25 يناير 2020 - 13:43

    مازال المغرب فيه مناطق نائية تعيش في زمن القرون الوسطى والدولة في خبر كان. الاستعمار كان ارحم وما زالت الأغلبية تترحم على تلك الحقبة.

  • Ziryab
    السبت 25 يناير 2020 - 13:56

    سياسة الإعتماد على القوافل لحل مشاكل السكان هو اقرار فعلي بعجز السياسة الرسمية في توفير المتطلبات الأساسية للمواطنين. هذه السياسة الإحسانية من قفة و قوافل يقابلها ازدهار للريع و الفساد و اختلال كبير في توزيع الثروات. و كل ذلك بسبب النظام الذي يعتمد على الولاء بدل الكفاءة و سلطة القانون. و إذا لم يؤسس لنظام ديموقراطي حقيقي ستسوء الأوضاع أكثر و تزداد الإحتجاجات و الآظطرابات و البقية معلومة.

  • خالد F
    السبت 25 يناير 2020 - 14:03

    قرأت هذا المقال على إيقاع موسيقى joaquin rodrigo 2 ، إنتابتني قشعريرة وحزن، لكن العمل الإنساني لهذه الجمعية أقل ما يقال عنه أنه رائع ومثال يحتدى به.
    أين هو مجلس الجهة من كل هذا؟ متى يتحقق مفهوم التنمية والديموقراطية المحلية؟ هل هو قدر أم واجب التعايش مع هذه الصور؟

  • Ezzidi Khalil
    السبت 25 يناير 2020 - 14:10

    je pense qu'il faut amplifier bien le budget sociale pour faire face a ces emblenatique et faire integrer le sourire a tout le monde marocaine de cette categorie pour qu'il trouve son bien être et don plaisir

  • عضو بالجمعية
    السبت 25 يناير 2020 - 14:20

    تحية لجميع القراء،
    هدف الجمعية بالدرجة الأولى هي تسليط الضوء على معاناة الرحل خصوصا و الساكنة خصوصا! لا يمكن أن تحل الجمعية مكان الدولة!
    الخلاصة: الواقع ها هو فليتحمل كل ذي مسؤلية مسؤليته!

  • zemmour
    السبت 25 يناير 2020 - 14:22

    العام طويييل والمعاناة كتيييرة،خاص هاد القافلة تقضي معهوم فصل الشتاء كامل باش تعرف حجم المعاناة،…صحيح هي بادرة إنسانية طيبة وخا فيها شوي دسياحة،حجة وزيارة كما يقال،،لكنها حل لأسبوع واحد أو أقل،ويستمر الألم….الحل يجب أن يكون جدريا،وانتهى الكلام….

  • هشام كولميمة
    السبت 25 يناير 2020 - 14:30

    شكرا للجمعية على هذه المبادرة…دائما أزور بعض العائلات الرحل في خيامهم: طيبون،الحوار معهم ممتع و عفيف و صادق و هذا ما تفتقده ما يسمى حياة التمدن أو الحضارة.للأسف الشديد يعتبرونهم كثير من الناس فقراء.سؤال:من هو الفقير؟شكرا على التفاعل.

  • Kardous
    السبت 25 يناير 2020 - 14:33

    الطبيعة لا تقهر والحياة ليست بماكرة، هناك أراضي جليدية وأخرى قاحلة يعيش فيها الإنسان في رفاهية. هذه البلدان تعطي البشر مكانته اللاحقة…

  • باحث في الاقتصاد الاجتماعي
    السبت 25 يناير 2020 - 14:36

    يمكن للدولة أن تستفيد منهم في السياحة. بعرض منتجاتهم التقليدية و ازيائهم و طريقة عيشهم. ولكن اين هو (مول الشكارة)الذي سيتكفل بهذا الاستثمار.وأين العقول التي ستخطط لهذا المشروع المهم. أم يهمهم فقط شراء المنازل في اوربا.

  • المهدي مجران
    السبت 25 يناير 2020 - 14:36

    ينبغي أن تتحرك الجهات المختصة لمساعدة الرحل .
    وأنه لم جميعا أن هناك مناجم النحاس غير بعيد من هناك تذهب مداخلها إلى … وهناك معادن افدوز نايت أوكار و رأس كمونة وغيرها من إر امكلوي وأماكن أخرى لاستخراج الرصاص…رحم الله سيدي على بن موسى .

  • مهنة تربية المواشي ...
    السبت 25 يناير 2020 - 17:14

    … والترحال بين المراعي اهملها المخطط الاخضر.
    يجب اعادة الاعتبار لهذه المهنة وذلك باستنبات المراعي وصيانتها وحفر الابار على طول مسارات الرعي وبناء عنابر الايواء للمواشي تقيها من الحر والقر وتقريب الخدمات من تجمعات الرحل.
    انعاش هذه المهنة قد يساهم في عودة بعض الشباب الى البوادي.
    فرعي الماشية في الطبيعة خير من حراسة السيارات في احياء وازقة المدن.

  • ملود
    السبت 25 يناير 2020 - 18:19

    حياة الترحال متعة لمن يزورها مرة في السنة لكنها جحيم لمن يعيشها على مار السنة,فنلتمس من فعاليت المجتمع المدني مبادرات اخرى في ميدان محاربة الامية و التطبيب ما دامت تلك المناطق لم تجد من يوصل صوتها و معاناتها للرباط

  • منطقي
    السبت 25 يناير 2020 - 18:50

    اين انت يالشوباني اين انت يالكوبل الوزاري اين انت يابنكيران اين انت ياعثماني حسبي الله ونعم الوكيل حسبي الله ونعم الوكيل فيكم

  • من العاصمة
    السبت 25 يناير 2020 - 19:25

    اخجل من هؤلاء الناس المساكين فالصور قاسية و تدمي القلب و نطلب منكم السماح فربما توزيع الثروة الغير العادل جعلنا نأخذ حصتكم عن غير قصد..تحية عالية لصمودكم و تعلّقكم بأمل في حياة أفضل

  • مؤمن بالله
    السبت 25 يناير 2020 - 20:08

    لا شيء يمكن أن ينسيهم عذاب الزمهرير. ومن يشك في ذلك عليه المجيء ليبيت معهم ليلة واحدة. وسوف يرى بأم عينه (إن أصبح حيا) كيف تمر عليهم ليالي الشتاء. وحر الصيف.

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة