فقه امتحان الابتلاء في "زمن الوباء" .. حسن الاعتقاد والائتساء

فقه امتحان الابتلاء في "زمن الوباء" .. حسن الاعتقاد والائتساء
الإثنين 27 أبريل 2020 - 06:00

يعتبر شهر رمضان الفضيل وأجواء الحجر الصحي فرصة سانحة للتعرف على العديد من نخب المغرب العلمية من خلال كتاباتها واجتهاداتها، خصوصا وأن المتلقي متلهف لقراءة الكلمة العالمة الموجهة والصادقة والصادرة عن أئمة العلم ورموزه.

وسنلتقي طيلة شهر رمضان المبارك مع مقالات قاصدة وموجهة، عكف الدكتور إدريس ابن الضاوية على كتابتها بلغة علمية رصينة وبيان عربي قلما تجده اليوم، يذكرك بالأصيل من الكتب والمؤلفين.

فقه امتحان الابتلاء وما يقتضيه حسن الاعتقاد والائتساء

إن من أهم ما ينبغي أن يستذكره العبد المؤمن الشاعر بأماناته، والمدرك لمسؤولياته، والملتزم بتوجيهات أصحاب الأمر الشرعي في مجالاته، المنصوص عليها في البيعة الشرعية الملزمة، بالتزام حبس نفسه في محله، وتقييد تصرفه في بيته حفاظا على عافيته وعافية غيره في محيطه، أن يتفكر فيما بين يديه من نعم الله سبحانه وتعالى التي تعسر على العد ويتأمل رؤوسها التي تعيي عن الإحصاء، أجلها نعمة الوجود، نعمة الله الأولى على هذا الإنسان التي بها كان شيئا مذكورا، ثم نعمة القدرة على التعلم التي بها عرف الأشياء وأدرك منازلها وفقه فوائدها وتيقن مصادرها وأحاط علمه بضرورة انتهائها بآجالها إلى مدبرها تعالى الذي ينتهي إليه كل شيء، ثم نعمة التسخير التي مكن الله بها من كفاية احتياجات النقص وتغذية احتياجات الزيادة التي يتطلبها التعمير الذي جعله الله تعالى من مهام الإنسان في هذه الحياة ليستمر الوجود بتتابع الخلائف، وتراكم التجارب الناتجة عن صور التفاعل مع مفردات هذا الكون المسخر فضلا من الله تعالى ونعمة. ثم نعمة التكليف التي بها عرف الإنسان حق الله تعالى في الحب والتوحيد والقبول والتسليم لمراده فيه خلقا ورزقا وابتلاء وقدرا في هذه الحياة؛ وحق رسوله صلى الله عليه وسلم في الطاعة والاستجابة، وحق الخلق في التعامل معهم بخلق الإنصاف الملزم بأداء ما ينبغي لهم، واليأس مما عندهم، والتعامل معهم بأوجه الإحسان المختلفة التي يعظم بها الأجر، وتزكو به المثوبة، ويتواصل بالمداومة عليها تمثل أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم نموذج رحمة الله تعالى الذي أراد أن تتقلب أصول مكارم أموره في تصرفات أتباعه الموحدين إلى اليوم الذي يصفون خلفه لأخذ مواقعهم في أعالي الجنان.

ثم تثبيت معنى الإيمان بالقدر من جهة الاعتقاد والعلم والعمل حتى يترسخ في القلب بما يحصل به اليقين المتعلق بسلطة الله تعالى في الاختيار الذي قال فيه سبحانه: وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون [القصص: 68 ]، التي تجعل العبد تحت هذه الإرادة المالكة الغالبة القاهرة للخلق على مرادها، فلا تغلب على نفاذ أمرها، ولا تجد مردا لقضائها من أي جهة كانت ومن أي قدرة شاءت، كيف والله تعالى محيط بكل شيء، ومالك لكل شيء، ومتصرف بإرادته الظاهرة على كل شيء.

ومن ذا الذي يجرؤ على الاعتراض على اختياره أو الخروج من حكمه، أو التنصل من قدره وقضائه الذي جاء على خلاف شهوته ومراده، ومتى جاز ذلك في معتقد المؤمن العالم بحقيقة الألوهية، والمدرك لمقتضى الربوبية المستحضر لقول الله تعالى: لله الأمر من قبل ومن بعد [الروم: 4]. ثم كيف واليقين حاصل أن في الابتلاء والامتحان بالأقدار المعوصة نعم كثيرة تختفي وراء فقد بعض المحبوبات، وفوت بعض المطلوبات التي تتطلع النفوس إليها في غمرة سكرة استجلاب اللذائذ ودفع صنوف المكاره، ونسيان استحصال الذكرى من فعل الله في الخلق المبصر بحقيقة وجوده واللافت إلى سعة ملكه والموقظ إلى لحاظ بعض مجالات رحمته والمنبه إلى مدارج تربيته للخلق في أفق أن يعرفوا: لم خُلِقوا وإلى أين يصيرون.

وهذا الإدراك الخفي لنعم الله التي يضمرها الابتلاء خاصا كان أو عاما، يورث الذلة لله، والتسليم لحكمه، والإخلاص لدينه، والرضا باختياره والإنابة إلى رحمته، والفرح باختياره، والاستبشار بتمحيص الذنب ومحوه، والحمد لأخذه وعطائه، والاطمئنان إلى عظيم جزائه الذي يتضمن في أبعاده الغيبية خير الدنيا والآخرة لمن يستبصر وينظر بإيمانه إلى بواطن الأمور.

إن التصديق بجريان الحكم على العبد وفق تقدير الله تعالى من شروط الإيمان المعلومة من الدين بالضرورة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره وقوله: لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقول عبد الله، قال: قالت أم حبيبة: اللهم متعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” إنك سألت الله لآجال مضروبة، وأرزاق مقسومة، وآثار مبلوغة، لا يعجل منها شيء قبل حله، ولا يؤخر منها شيء بعد حله، ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في النار، وعذاب في القبر، كان خيرا لك “.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تضمين الخير في الأحوال في الرضا والصبر على الاختيار المخالف لهوى النفس ومتمنياتها في قوله: عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له. وفيما رواه وهب بن خالد الحمصي عن ابن الديلمي قال : أتيت أبي بن كعب فقلت له وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله جل ثناؤه أن يذهبه من قلبي فقال : لو أن الله جل ثناؤه عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم و هو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما تقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، و لو مت على غير هذا لدخلت النار، قال: ثم لقيت ابن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.

ومن أيقن بحكمة الله في خلقه، وأقر في نفسه بضعفه وعجزه أقر بجهله عن فهم مضامينها الغائبة في ظواهر التصرفات المقلقة، والتفاعلات المتعبة، وعلم بصحيح يقينه أن الخير كله في الذي قضى الله بحكمته، وأن العبرة بالموقف المستسلم من فعله وتقديره، وحسن الأمل في عاقبة أمره، ومحو وتثبيت ما شاء من شأنه، الذي يتفرد الله تعالى بامتلاك ناصيته، والهيمنة على قريبه وبعيده.

إن من مقتضى الإيمان باختصاص الله بالتقدير أيها الأحبة ـ بحق مالكيته وخالقيته وغلبته على أمره وتصرفه في شأنه ـ ،أن الله تعالى مُفْنٍ ما على هذه الأرض ومبدل الأرض غير الأرض، و أن الشمس تكور والبحار تسجر والكواكب تنتثر و السماء تصير كالمهل وتنفطر فتطوى كما يطوى الكتاب، و أن الجبال تصير كالعهن المنفوش، وينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا و لا أمتا، وكل ذلك كائن كما جاء به الخبر ـ الذي تواترـ ، ووعد الله صدق و قوله حق؛ وأن هناك يوم آخر له، يجمع الله فيه من رجع إليه من الخلق، تنكشف فيها حقائق آثار أعمال الدنيا القلبية والبدنية، ويمتاز من وَفَّى فيها بأداء حق التكليف المتعلق به، ومن خان في توظيف تصرفاتها فيما ينبغي من العمل المرفوع، والسعي الرافع إلى المنازل التي يتباهى الناس بها في مواقعهم التي انتهوا إليها بسلامة قلوبهم، وصالح أعمالهم؛ وأن السعادة الحقيقية المرتجاة، هي ما يوصل إلى الدرجات السَّنِيَّة في الآخرة المرتبة على عمل الخير وخير العمل كما قال الله تعالى: “ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون [الأنعام: 132].

وقد أبان عن هذه الحقيقة الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله في قوله: اعلم أن السعادة الحقيقية هي السعادة الأخروية، وما عداها سميت سعادة إما مجازاً أو غلطاً، كالسعادة الدنيوية التي لا تعين على الآخرة، وإما صدقاً ولكن الاسم على الأخروية أصدق، وذلك كل ما يوصل إلى السعادة الآخروية ويعين عليه، فإن الموصل إلى الخير والسعادة، قد يسمى خيراً وسعادة….

لذلك ينبغي لنا ولشبابنا على جهة الخصوص ملاحظة صنوف النعم الخفية في ظهور هذا الفيروس العالمي القاسي الرهيب، المسمى بكورونا والمصطلح عليه بكوفيد – 19 المذكر بعدد خزنة جهنم، النعم التي يمكن أن يعد منها: ملاحظة عز الله تعالى، وغلبة أمره ونفاذ حكمه، وظهور أمره الكاشف عن فقر الإنسان وضعفه وعجزه، وخطأه في ادعائه وتكبره في نفسه، ومنها إحياء واجب محاسبة النفس على كسبها واكتسابها وبذلها وإنفاقها وصنوف أماناتها وعلاقاتها. ومنها الرجوع بالنفس إلى تذكر حق الأهل والأبناء والأقرباء وأصحاب الفضل، ثم استذكار ذوي الحاجات وأصحاب الفاقات والمسكنات الذين غلبوا على اقتناء الضروريات واستحضار الأساسيات بالاجتهاد على قدر الوسع بالجود مشاركة في مبادرة أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله التضامنية الفريدة من نوعها في دنيا الناس لمواساة بني قومنا على اختلاف توجهاتهم واختياراتهم الذين تأثروا تأثرا مباشرا بهذا القَدَر الجارف، فاحتاجوا إلى ما يتطلبه عيشهم وعيش من يعولون من أهليهم وأقربائهم، ثم منها التحقق بواجب الطاعة لما قررته الأمة من التزام مقتضى النظام العام بقبول حكم الحجر الصحي الضروري المشروع تجنبا للعدوى أخذا وإعطاء، الذي يدل قبوله على رفعة قدر الرابطة الدينية، وعلو مستوى الوعي بمقصد الوحدة الوطنية، وائتلاف الصف على أساس البر ورعاية المصلحة العامة في حفظ مقاصد الدين الكلية، التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من أجل مقاصد بعثته، وأسمى مكارم حنيفيته.

‫تعليقات الزوار

9
  • عبد الحق
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 06:44

    و الله إن لهذا الوباء منافع كثيرة .انها المرة الاولى التي تغلق فيها الملاهي الليلية و مقاهي الشيشة و يمنع فيها التسكع في الشوارع بدون حاجة في هدا الشهر الكريم ..فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم…..انها المرة الأولى التي احسسنا بها بحلاوة صيام رمضان إيمانا و احتسابا.فحمدا لله على نعمة الله

  • عبد. العزيز
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 08:53

    اخيرا اعطيتم الكلمة للاختصاص جزاكم الله خيرا وليكن في علم الجميع بان التخلف الذي نحن فيه ليس سببه الاسلام وانما المسيطرون على المناهج التعليمية في بلدنا الحبيب وانتم تعلمون من هم

  • Driss
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 10:52

    الانسان مخير في افعاله و هذا الوباء كجميع الاحداث التي تقع في العالم من جفاف و فيضانات و زلازل و سقوط المطر و غيرها . لماذا عندما يكون وباء تلتجئون الى الله و لكن تنسونه فيما بعد. عندما ضرب الطاعون و كثرة الحروب في الدول الاسلامية هل نعتبر ذلك بلاء من الله كما يقع حاليا في افغانستان و العراق و سوريا و اليمن و ليبيا . المشاكل التي يعيشها العالم هي نتيجة تصرفاته. هل الغش و الرشوة و الثلوث و الديكتاتورية ووو هي نتيجة اختيارات الانسان و الان يؤدي ثمن اختياراته

  • احسن ما قامت ...
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 11:35

    … به التلفزة المغربية هو استرجاع ذاكرة الدروس الحسنية الرمضانية بإعادة عرض الدروس التي ألقاها كبار فقهاء المغرب امام المرحوم الحسن الثاني ، ليطلع الشباب على الموروث الفقهي المغربي الأصيل و يتعرفوا على فطاحل الفقهاء وكبار المحدثين.
    لا ادري فيما اذا كانت الدروس الحسنية الأولى لسنوات العقد السادس من القرن الماضي محفوظة ويمكن اعادة عرضها والتذكير بها ام ان ارشيف تلك الدرر ضاع واندثر ؟.

  • سيمحمد
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 12:43

    من كمال الإيمان الرضى بالقضاء والقدر وأنه لا نافع ولاضار إلا هو و أنه ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطاك لم يكن ليصيبك و أن الله على كل شيئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شيئ علما وأحصى كل شيئ عددا وأن الفرج مع الصبر وأن مع العسر يسرا .

  • عبد الحق
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 12:45

    من مفهوم المتواضع فهذا الابتلاء ما هو إلا ندير من رب العالمين لكي نستغفره تعالى ونتوب إليه من كترة المعاصي. فأهل الكتب السماوية كلهم زاغوا عن الطريق المستقيم..نطلب من بالله جل جلاله أن يغفر لنا تقصيرنا في ديننا

  • سي محمد
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 12:54

    من كمال الإيمان الرضى بالقضاء والقدر وأنه لا نافع ولا ضار إلا هو وأنه على شيئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شيئ علما وأحصى كل شيئ عددا وأن الفرج مع الصبر وأن مع العسر يسرا ؛ مع الأخذ بالأسباب المعلن عنها من قبل السلطات المختصة أي إجراءات الحجر الصحي .

  • Sidi Bennour -Maroc
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 17:48

    ان هدا الوباء الخطير الدي انتشر بين الناس في العالم. والدي جعل الناس مضطريين للبقاء في بيوتهم. فتوقفت المواصلات الجوية والبرية والبحرية.وتعطلت الادرات والاعمال والاشغال في كل القطاعات الا الغدائية والصحية .واغلقت الحمامات والمقاهي ومنع التجوال بالليل والنهار … خاصة وانه تزامن الان مع شهر رمضان …شهرالطهارة والغفران لدليل قوي ان ما نعيشه هو ابتلاء وفتنة من الله تعالى بدون شك …فعلى الناس استغلال هده الظرفية للعودة الى الله والثوبة النصوحة والدعاء والتضرع لله عز وجل والاستعانة به لرفع هدا الوباء الفتاك

  • كمال
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 18:31

    البارحه كان وباء كورونا فيروس عقابا الاهي للصينيين لمعاملتهم السيئه ضد الايغور الاقليه المسلمه حسب البعض والان اصبح بعد ان دق اي كورونا ابواب الجميع ابتلاء وامتحان للمؤمن.
    شيئا من الموضوعيه رجائا.

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 2

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 10

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج