"ديوان المائدة" -2- .. عرش الخبز المُكَرم وبذخ اللحم وترف الشحم

"ديوان المائدة" -2- .. عرش الخبز المُكَرم وبذخ اللحم وترف الشحم
الأحد 26 أبريل 2020 - 18:00

في شهر رمضان الكريم ينسحب الطعام من الموائد في النهار، فيعوّض نفسه بأكثر من صورة، وحيثما أمكنه أن يفعل.

وهكذا تنبعث وصفات من الراديو، وبرامج تبث على القنوات التلفزية، وصفحات خاصة بمختلف “الشهيوات” تنشرها الجرائد والمجلات، وصور لأطباق شهية تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، كما أنه بات موضوعا يثار في المكالمات الهاتفية بين الأهل والأحباب.. ولا يعود إلى نفسه من جديد إلّا بحلول مائدة الإفطار.

جريدة هسبريس الإلكترونية ارتأت أن تتحف قراءها خلال شهر رمضان المبارك بحلقات من كتاب “ديوان المائدة” للشاعر والكاتب المغربي المتألق سعد سرحان، وهو يقدم صورا غير مألوفة للطعام .. شهية طيبة:

المائدة 2

يكاد الخبز أن يكون محض كناية. فما من صورة له تبدو واضحة منذ أن بايعته معظم الشعوب رمزا لكل طعام. فبسبب تواضعه وأوجه البساطة التي يكتسيها، استطاع أن يتصدر الموائد من مختلف الأجناس، إذ لا يضاهيه حضورًا سوى صنوه الماء. فهما معًا يتبادلان الملامح مع توأم آخر: الجوع والعطش.

ولأن الأجيال الجديدة تجترح استعاراتها الخاصة بنفس الذوق الذي تختار به الملابس وتسريحات الشعر والأغاني وباقي أَكْسِسْوارات الحضور المتميز، فقد ارتأت أن تخلع الخبز عن عرشه المتقشف لصالح رمز آخر يجمع بين بذخ اللحم وترف الشحم ولذة العظم. وهو الرمز الذي استساغته الألسنة حَدَّ أن ولَّدت لأجله حاشية من الفعل والفاعل والمصدر والحال وهلمَّ قصًّا، مضيفة بذلك صفحة شهية إلى معجم الغذاء.

هكذا أصبح الجيل الجديد من المغاربة يطلق اسم “القصّ” على كل طعام.

هو انقلاب، إذًا، ضدّ الخبز. أما من قاده، ومتى تمّ ذلك، وكم تطلب الأمر من الوقت وأسئلة أخرى كثيرة، فنترك جانبًا أمر طرحها ومحاولة الإجابة عنها، فيما سنتوقف فقط عند عبقرية الاختيار، اختيار القَصِّ رمزًا متوجًا لكل طعام.

لا يحتاج الخبز إلى تعريف، وإلا سنكون كمن يشرح الخبز بالخبز. فهو مألوف وواضح وعار. الدقيق والملح فيه شديدا التشابه. والماء فيه حيلة العجين إزاء بطش النار.

أما القصُّ فغريب وغامض ويحتاج إلى لسان العرب حيث: هو المُشاش المغروز فيه شراسيف الأضلاع عند وسط الصدر.

من القمح حتى آخر كسرة مهملة، يحظى الخبز باحترام يشبه التقديس. ففي البوادي التي مازالت تسودها أساليب الزراعة التقليدية، لا يطأ الفلاحون أي بيدر قبل أن يخلعوا نعالهم.

وهم بذلك يعاملون البيدر كبيتٍ من بيوت الله. فإذا كان المسجد مكانًا لإقامة الصلاة، فإن البيدر مكان لإقامة الأود.

ولعلهم يُزكُّون فقط المعاملةَ تلك حين يرفضون قطعًا إعمال السكين في الخبز، مفضلين تكسيره بأيديهم، كما لو أنهم يعملون بوصية توارثوها أبًا عن جدّ. وهي، لا بد، مدوّنة في كتب الأسلاف.

وإذا كان بعض الناس يحترمون الخبز حتى وهم يقسمونه، فإن كثيرين يقدسونه حين يُقسمون به. كما أن منهم من يحفظون الودّ لبعضهم بسبب جزء يسير منه: الملح.

وحتى الآن، إذا وجدت كسرة خبز على قارعة الطريق، فإن الحكمة تقتضي تقبيلها ووضعها بمنأى عن الأقدام. ففي ذلك تقدير لشيء نحن مدينون له ببعض لحمنا. فأبو جابر، وهذا أحد أسماء الخبز كون كسوره تجبر كسور الجوع، يستحق منَّا ذلك وأكثر.

أما القصّ فلا يمكن الوصول إليه باليد المجردة، إذ لابد من سكين للذبح والسلخ والتقطيع… فأي احترام وأي تقدير بعد هكذا عمل دموي؟

يحظى القصّ بالاشتهاء، بالاشتهاء فقط.

ولعل شهوتنا للحم دفينة فينا منذ الإنسان الأول الذي خبر الصيد قرونًا قبل الزراعة، ذلك الذي كان يمشي إلى الطريدة صَدْرًا حيث لا أثر للنبال.

إذا كان الأنف صنو الأنفة فإن الصدر شقيق الصدارة.

فمنذ الصرخة الأولى تبدأ علاقة الإنسان بالصدر، صدر الأم حيث حليب الحياة، تلك التي يقضي سحابتها في البحث عن مكان في صدر الخيمة أو صدارة المجتمع. فما دون ذلك ليس سوى رغام يأباه الأنف قبل الأنفة. ولعل شاعرنا القديم لخص الأمر كله في هذا الشطر:

لنا الصدر دون العالمين أو القبر.

الانقلاب ضد الخبز لصالح القص استبدال للنبات بالحيوان. فالخبز سليل القمح والشعير والذرة…

أما القَصُّ فينحدر من الضأن والبقر والبط والدجاج… وهو أيضًا استبدال للهامش بالوسط، هامشِ المائدة حيث الخبز بوسطها حيث الطبق الرئيس المكون في العادة من اللحم. فاللحم يتوسط المائدة ويتصدر الطعام مثلما يتوسط القص الصدر.

إن استبدال الخبز المتقشف بالقص الباذخ استبدال لرمز محترم حدَّ التقديس برمز يلخص معظم الشهوات. فاللحم كان دائما عنوانًا للترف والجموح واللذة، وهي الأثافي التي تأججت بينها نار جدّنا الجاهلي فأشاد بأكل اللحم وركوب اللحم ودخول اللحم في اللحم.

‫تعليقات الزوار

17
  • السم الابيض
    الأحد 26 أبريل 2020 - 18:09

    وصل وزني 80kg ولات عند كرش كبيرة ووجه منفوخ وعييت ندير ريجيم حتى لاحظ واحد الصديق اني تناكل الخبز بزاف,فحبست الخبز وعوضته بسلاض مطيشة وخيار فنزول وزني ل 67kg بعد 6 اشهر فعدت رشيقا نشيطا وتجنبت امراض السكري والقلب وغيرها

  • Max
    الأحد 26 أبريل 2020 - 18:13

    كورونا أعطت كثير من الدروس الحياة للمغاربة
    مثل.
    النظافة
    عدم التبذير
    الاذخار
    امثتال للقوانين البلاد
    المضاهر كلها خداعة في هذه الحياة
    دخول الدارك و سد علك.
    حمد الله على الصحة و العافية.

  • عزيز
    الأحد 26 أبريل 2020 - 18:23

    هذه أول مرة أقرأ شيئاً للكاتب المغربي سعد سرحان.
    أعجبت كثيراً بالصور الجميلة التي رسمها بكلماته للطعام وعلى رأس القائمة طبعا الخبز.
    ذلك الطعام الذي تربطنا به علاقة وطيدة وتاريخية ولطالما كان الخبز والقدرة على توفيره سببا في استتباب الأمن والامان.
    تحية صادقة لكل فلاح يكد لتوفير هذه المادة الاستراتيجية.

  • مُــــــــواطنٌ مَغربِي
    الأحد 26 أبريل 2020 - 18:35

    المادة الوحيدة التي يتم فرزها من طرف المواطن قبل رميها في القمامة هي الخبز. تجد الكل يضعه في كيس بعيدا عن حاويات الازبال حتى يظفر به جامعو الخبز.. وكذلك تجد المختل عقليا لا يرمي الخبز في أي مكان بل يضعه جانب حائط

  • مجيد
    الأحد 26 أبريل 2020 - 18:39

    الخبز هو سبب سمانة انتفاخ البطن بي شحوم وأمراض السكري ونحن المغاربة شعب يستهلك الخبز والمعجنات بي كثرة في كل يوم والمناسبة ولهذا الحسن وتقليل من الخبز او تركه من الحسن

  • samuel
    الأحد 26 أبريل 2020 - 18:40

    حرام عليكم شهيتونا. خليو غير حتى يؤذن المؤذن و جبدو لينا الماكلة. حسب الأطباء الصيام كيقوي المناعة و لاكنه يبقى دون مفعول إذا لم يكن هناك توازن التغذية 50% من الطعام يجب أن تتكون من الخضر و الفواكه و السلطة 25% من البروتينات أي اللحوم و بعض الفاكية و 25% من الهيدروكاربيرات أي الخبز رغم أن الهيدروكاربيرات غير مفيدة للمناعة و الجسم يحتاج إلى مجهود كبير للتخلص منها

  • الغرباوي
    الأحد 26 أبريل 2020 - 18:58

    اجمل ما يأكل الإنسان هو الشعير والذرة هما بدون خمير يقوي الإنسان نفسيا وجسديا ومعنويا ويبتعد عن الماكلات التي تباع في الشارع هي سبب الأمراض في هاد العصر.

  • Oujdi from germany
    الأحد 26 أبريل 2020 - 19:00

    رمضان مبروك.
    الخطرة اللي فاتت بالصيف روحت لوجدة و لاحضت في جميع الوقات الناس يستعملو الخبز الأبيض.
    الخبز هو منتوج مافيهش الفيتامينات و يسمن و الكارتة هي العشاء متأخر
    حاولو تستهلكو الخبز الأسود في الصباح و في الغداء نصف الكمية
    كانت فيا 95 كيلو و دروك 78 كيلو لمدة سنتين و رياضة بناء الأجسام

  • حمو
    الأحد 26 أبريل 2020 - 19:34

    يجب علي المغاربة ان يغيرو من عاداتهم الغداءية ، وأول عادة هي الفطور صباحا و الغداء ضهرا و العشاء ليلا ، هي عادة رسخت في دهن المستهلك لارضاء شركات الأغذية عبر سنوات من الاشهارات وغيرها ، فالإنسان يستطيع العيش بدونها وجبة واحدة أو وجبتان كافيتان عندما يشعر بالجوع، تاني عادة هي الخبز و السكر يجب التخفيض من استهلاك المغاربة للخبز و تعويضه بالخضر و الستغناء عن السكر كليا ، و استعمال السكين ورالشوكة في الاكل بدل التغماس، …..

  • bernoussi
    الأحد 26 أبريل 2020 - 20:03

    qui est sûr parmi nous que le blé de moulins est lavé avant d'être écrasé et traduit en farine ?
    il n'est pas lavé. Nous le consommons avec ses pesticides et ses insecticides . Nous en consommons énormément et comme celà a été dit dans certains commentaires, il est l'une des causes du surpoids !!!
    ajoutons aux produits toxiques utilisés pour sa conservation, le taux élevé de gluten qu'il contient et qui a été augmenté par les laboratoires de recherche afin d'obtenir un pain compact et qui bulle très bien. Résultat des courses, des allergies de plus en plus nombreuses…la farine blanche est considérée par certains nutritionnistes comme un poison pour ses effets néfastes sur la porosité des intestins et les complications qui pourraient s'en suivre . mangeons du pain mais en petite quantité tout en éliminant tout ce qui est messmmen, r'ghayef etc..consommons de la farine complète non traitée avec modération ce qui n'est pas évident.moins de gras et de fastfood
    Ramadan Mobarak

  • فجر
    الأحد 26 أبريل 2020 - 20:17

    تجنبوا اللحوم خلال هذا الشهر الفضيل…أفطروا على الثمر والماء هديا بنبيا محمد صلى الله عليه وسلم…عليكم بالخضر والفواكه والأكل النباتي والأسماك…لا ثم لا للمأكولات الصناعية…لا تنسوا شرب الماء بكمية معقولة وغير بارد طبعا!! تجنبوا ثلاث وجبات أي تفادوا الأكل بين الفطور والسحور باستثناء المشروبات الطبيعية المفيدة…رمضان فرصة عظيمة ومعجزة ربانية فيه مقاصد روحية وكونية ….تقبل الله من الجميع ورمضان مبارك.

  • مستغرب من المغرب
    الأحد 26 أبريل 2020 - 20:53

    ما هكذا تورد الإبل يا سعد !!
    هكذا أصبح الجيل الجديد من المغاربة يطلق اسم "القصّ" على كل طعام…
    أبدا .. فئة محددة تستعمل هذه اللفظة.. وعممتها على المغاربة ..
    المغرب لهجاته كثيرة .. والأمازيغية تزيد من هذا الغنى والتنوع ..
    اوردت في نهاية المقال.. عبارة دخول اللحم في اللحم… غير انيقة العبارة..

  • bouybawn isa
    الأحد 26 أبريل 2020 - 20:59

    بمجرد ان بدأت قراءة المقالة فكرت اني نسيت شرب الماء
    فالماء هو المحرك الاساسي في التغذية وتبقى المواد الاخرى دون فائدة بدون ماء نقي صالح للشرب.
    للتذكير يوجد تطبيق على الهاتف يذكر بشرب الماء والاطباء يوصون بشرب الماء نظرا لدوره في تصفية الجسم من السموم.
    اما الاطباق فتكثر في رمضان ونظرا لكثرتها فقد تتسبب في تسمم الجسم خصوصا في رمضان وكوننا لا نتحرك كثيرا.

  • ahmed
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 01:44

    هنالك فعلًا من لم يستبدلوا الخبر بالقص، لأن لا وجود لكلمة خبز أصلًا في قاموسهم.فهو عند بعضهم آغروم ولا نعرف بما استبدلوه.
    والأغرب في لهجات المغرب أنّ الخبزة في بعض المناطق تسمّى الكْرونة.
    لذلك فالمقال لم يتطرق إلى النادر الذي لا حكم له.
    شكرً للكاتب وللجريدة.

  • فريد
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 05:08

    مشي الأجيال الجديدة من إخترعت كلمة القص. كانت متداولة في السبعينات، كنا حين ندخل البيت نسأل : واش كاين شي قص؟
    وربما كانت قبل ذلك. المهم أنه في السبعينات كانت متداولة بين الشباب.

  • otmane
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 07:12

    مقال فيه بحث و عمل يعطيك لذة أثناء القراءة. لكن دخول اللحم في اللحم ما هو محله في الموضوع، تعبير لا يليق إلا بشخص يعبر فيه عن الكبت. أما بالنسبة للصحافي الذي نشر المقال أقول "شوية ديال الغربال" كنا في الخبز و أصبحنا في الخرطال.

  • Alien
    الإثنين 27 أبريل 2020 - 10:38

    جيتي حتى اخر جملة في المقال او خصرتيها

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة