سرحان "يكتشف" الغُدد الضوئية .. عندما يحتضن العقل الجنون

سرحان "يكتشف" الغُدد الضوئية .. عندما يحتضن العقل الجنون
الجمعة 5 أبريل 2019 - 07:00

إنّنا مدينون، دون أدنى شكّ، إلى العقل بمعظم ما وصلنا إليه، حتى لَيُمكن اعتباره أعظَمَ غُدّة في جسد الحياة، إِذْ مَنْ غيره يفرز حولنا كلَّ هذا الضوء؟ لذلك، فإنَّ ذوي العقول الجبّارة تمتّعوا، في كلّ زمان وكلّ مكان، بإجلال لا ينفد وهالة لا تأفل، وحتى الذين كانوا منهم عُرضة للظّلم والظّلام، وجدوا دائمًا من يُخرج أسماءهم من الخمول إلى الخلود.

إنّ المصباح الذي يضيء الآن بكبسة زرّ، إنّما هو حفيد الشّرارة الأولى، وقد انحدر إلينا من تلك السّلالة العظيمة التي انطلقت قبل آلاف السنين، يتقدّمها حامل المشعل في ليل العالم. وليست الرّحلة من النّار إلى الكهرباء سوى الموجز، موجز الحضارة الإنسانية، أمّا التفاصيل، فمن الحمق مجرّد التفكير في حصرها.

يقينًا أنّ اجتراح الضوء كان حلمًا سماويًّا، مصدره الشمسُ نهارًا والقمرُ والنجوم ليلًا. لذلك بات عاديًّا أن نسمع عن إطلاق أقمار اصطناعيّة في الفضاء. أمّا الشمس الاصطناعية، شمس الإنسان الأولى، فهي الآن قيد اللّمسات الأخيرة. ولذلك أيضًا، فإنّ الإنسان، عرّاب هذه المغامرة العظيمة، ما إن يلمع في مجال من المجالات حتى يُسمّى نجمًا.

إنّ الضوء الفعلي الذي نعيش في كَنَفه الآن، إنّما هو نتيجة الضوء المجازي المعروف بالعلم، ولأنّ هذا مشحون دومًا بالعقل، فهو بطّاريّة لذاك، بطّاريّةٌ سرمديّةُ الخصوبة.

وإذا كان العلم هو مخطوطة الإنسان التي بلا حدود، والتي أَوْسَعها زيادةً وتنقيحًا عبر العصور، وسيظلّ يفعل ما ظلّ يحيا، فإنّ تحقيقها المستمر هو ما يرقى بالحياة في مدارج الحضارة. فالريّاضيات والفيزياء والكيمياء على سبيل التقدير، ما كان لها أن تحظى بما تحظى به لو ظلت حبيسة المخطوطة تلك، رغم ما تشغله من حيّز جليل، لولا تحقيقها المدهش الذي أسفر عن الطريق السيّار وآلة الغسيل وحبّة الدّواء…

وهو التحقيق الذي بات معه كلّ رغد الأزمنة السابقة يبدو شظفًا موصوفًا مقارنةً مع رغد أيّامنا هذه. وقد لا ننتظر طويلًا قبل أن نشهد تنزيل المرآة الفريدة التي سيرى فيها المستحيلُ، أيُّ مستحيلٍ، كم هو مُمكنٌ.

غير أنّ هذه الطبعة من الحضارة الإنسانية، التي نرفل بين سطورها الآن، ليست، قطعًا، هي الأعمال الكاملة للعقل. ذلك أنّ بها صفحاتٍ رائعةً خطّها الحلم والخيال والجنون… وهي الغدد السّحرية التي يعرف الجميع ما أفرزت، ولا أحد يعرف ما تفرز غدًا. ولعلّ هذه الصّفحات، في مُدَّتنا هاته، هي ما يستغرق معظم وقتنا، إِذْ أنّ ما نقضيه أمام فتنتها يجِلُّ عن التقدير.

وكما أنّ الطعام يستمدّ لذّته من النّار والتوابل والمُنَسِّمات… فإنّ الحياة، هذه الوجبة الفريدة التي لا يتناولها الإنسان مرّتين، تدين بمتعتها إلى الكثير من البهارات التي تجعل المرء لا يشبع منها أبدًا.

ولنا أن نتخيّل حياةً قِوامها العقل فقط، لننحني إجلالًا لأوائل المجانين الذين سخّروا أطرافهم كيفما اتفق لغير السّعي والعمل، قبل أن تتفق لهم على ما يُعرف الآن بالرقص، والذين سخّروا حناجرهم لغير الكلام والصراخ فاجترحوا لنا الغناء، ولغيرهم مِمّن شطّوا بخيالهم وحواسّهم فأثّثوا عالمنا بهذا الرِّيّاش النفيس من مسرح وموسيقى ورياضة وأدب وتشكيل ونحت وأزياء وسينما وعطور وحليّ…

إنّنا، حقًّا، مدينون لهؤلاء وأولئك بنفس القدر. ولَكَم نحن محظوظون بعيش هذه اللحظة النادرة من عمر البشريّة، اللحظة التي تستمدّ حرارتها من احتضان العقل للجنون ومعانقة العلم للحلم.

‫تعليقات الزوار

13
  • مفكر
    الجمعة 5 أبريل 2019 - 07:26

    اسلمت اناملك وريشنك الذهبية ايها الكاتب المحترم رغم اني امازيغي احب الامازيغية اكثر من العربية ولكن هناك كلمات عربية ساحرة تدخل في اعماق امازيغيتي واستمتع كان اللغتان يرقصان رقصة الفالسا في كياني ووجداني فاغلب الأشياء حولنا إن لم تكن كلها تدعو للدهشة حتى الشرود، فإنها على أقل تقدير تدفع المرء دفعاً نحو حافة الجنون.. لن أرهق ذهني وذهن القارئ الكريم بمحاولة استعراض الأسباب لكثرتها، ولظني أنها لا تحصى أو تُعَد.. لكن لماذا لا نجرب أن نرحل معاً في رحلة هادئة بين ضفتي العقل والجنون مع الخواطر، لعلها تأخذنا لمربط المعاني الحقيقية لأمور هامة في حياتنا؟ أو ربما تصل بنا إلى المنتهى الأكثر أريحية للعقول المثقلة بهموم أمس واليوم وغداً.

  • طالب معاشو
    الجمعة 5 أبريل 2019 - 07:44

    «إنّ المصباح الذي يضيء الآن بكبسة زرّ، إنّما هو حفيد الشّرارة الأولى، وقد انحدر إلينا من تلك السّلالة العظيمة التي انطلقت قبل آلاف السنين، يتقدّمها حامل المشعل في ليل العالم»

    ناري غادي يسمعها بنكيران غادي يݣول لينا :"الحزب ديالي هذا ؛ صوتو علي ؤ لا نقطع عليكم الضو !"

  • مصطفى أغروم
    الجمعة 5 أبريل 2019 - 07:55

    يقع المغربي بين المنزلتين فلا هو مجنون ولا هو إنسان عاقل لدى يظل خائفا من مواجهة التحديات .

  • Charafi ahmed
    الجمعة 5 أبريل 2019 - 08:15

    كلام جميل وتحليل رائع
    كان وأجبا أن نقتبس هذا من سورة النور

  • سعيد
    الجمعة 5 أبريل 2019 - 08:28

    المشكل هو اين يوجد العقل…؟ ليس في المخ لأن القرآن يقول لنا في الصدور…هل في القلب ليس العضلة… كما يدعو البعض…أو في الامعاء… كما توصل إليها العلماء…!

  • Who knows
    الجمعة 5 أبريل 2019 - 08:44

    كم هو صعب على عقول اوتها التفاهات في فهم او على الاقل محاوله قراءه هدا المقال الرائع والاستمتاع بنور كلمات تنبعث كشرارات ضوىييه قادمه من كوكب آخر غير هدا الكوكب اللعين الدي يزداد ضلمه يوما بعد يوم لكن مصباح النور المضيى المتوهج موجود وان تعطلت انا رته الى بعد حين فالضوء ينبعت وينطفى وينبعت وينطفى مرارا وتكرارا الى أن يعي صاحبه ان القدر والمصير هو ان يتوهج دلك الضوء وسط الضلمه العاتمه الحقيره
    مقال رائع اول مره وربما اخر مره اعلق لانه حقا كلام يستحق التقدير شكرا

  • الخنفساء المزعجة
    الجمعة 5 أبريل 2019 - 09:19

    حديث جميل له حمولة فكرية هو أقرب إلى التأمل العقلي لكن الغريب أنه كتب في موقع أخباري ، فما سياق ذلك ؟ إذا كان بخور البابا وصلاته الملائكية هي التي الهمتكم فذلك أمر أخر ، أما أزمة العقل عندنا فسوف لن تجدها رواسبها في ضلالات بعض المهمشين الذين ارهقتهم الضغوطات الإجتماعية ، ولكنك سوف تجدها في المجال الدستوري والقانوني أي ما اصطلح عليه بالحق الإلاهي في السلطة ، موضوع يكاد يكون من الموضوعات التي يصنفها المغاربة ضمن المحرمات ، يستطيعون الحديث في موضوع المفاوضات النووية بين كوريا وأمريكا ، أو عن هيكل سليمان في القدس ، أو عن بعض الأخبار الجنسية الطريفة لرئيس أمريكا ؛ ولكن هذا الموضوع يظل محاط بالكتمان ! وحينما يكون الإسلام في خدمة الشعب ومدافعا عن قيم العدالة والحرية يتهم صاحبه بالجنون !

  • ahmad
    الجمعة 5 أبريل 2019 - 09:40

    شكرًا للشاعر سعد سرحان،فللحلم والخيال والجنون… أفضال كثيرة على الإنسان،بل إن العقل نفسه يكون أحيانا في خدمتها لما فيه سعادة العالم والناس.

  • محسن
    الجمعة 5 أبريل 2019 - 12:40

    كلمات تمتع واسلوب ينعش.وتلك ترانيم تدعو للتامل.العقل ابداع متوقد يزداد نوره كلما خبرته طموحات الانسانية .

  • Benyahya
    الجمعة 5 أبريل 2019 - 18:50

    qui rend homage aux penseurs aux créateurs aux artistes qui par leur travail acharné ont donnés à l'huminité entière le confort actuel Grand Merci pour cet article

  • Mirza
    السبت 6 أبريل 2019 - 09:15

    كنا نظن انك عالم فيزياء تريد أن أن تطلعنا على اشياء عن العقل البشري اد بك تطرح تلاوين خرافية قرشية تلعب فيها بالكلمات انه اسلوب مدرسي لا قل ودل

  • الأشكر
    الأحد 7 أبريل 2019 - 18:52

    تحية طيبة للزميل سعد سرحان
    العقل واللاعقل مفهومان نسبيان.
    ما أحوجنا للاعقل في بعض الأحيان

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات