سرحان يتابع "تحيين السّلف" .. "استبداد الكواكبي وحيوانات الجاحظ"

سرحان يتابع "تحيين السّلف" .. "استبداد الكواكبي وحيوانات الجاحظ"
الجمعة 22 مارس 2019 - 05:00

لقد طرق أسلافنا أبوابًا غريبةً، وألّفوا في مواضيع أغرب، أوْلَوْها بالغَ الاهتمام بأن اقتطعوا لها من أعمارهم جُلَّها، وسخّروا لها من أنفسهم جَليلَها، ونفخوا فيها من أعماقهم، فإذا هي بيننا، حتى الآن، حاملة لقسمات أرواحهم.

بعض تلك الأعمال لا يحتاج إلى تَحْيِين، فقد تمَّ له ذلك بأساليب ووسائط لم تكن في زمن أيّ من الأسلاف.

فما حاجتنا الآن مثلًا إلى تحيين “أخبار الحمقى والمغفلين”، وهي تصلنا أوّلًا بأوّل، وبالصوت والصورة والتعاليق، حتى شاشاتنا الشخصية؟ ما حاجتنا إلى ذلك، والأخبار تلكَ تستعصي على أيّ لغة وتجِلُّ عن أيّ كتاب؟ ولو قُيِّض لأحد الأسلاف أن يشاهد ما نشاهد منها، ويعرف عن أبطالها ما نعرف، لصرخ فينا: أليس بينكم عاقل؟

وما حاجتنا إلى تحيين “طبائع الاستبداد”، بعد أن طبَّعْنا معه، وبات حاجة نفسية لمعظمنا، حتى أنّ منّا من يستبدّ بنفسه إذا لم يستبدّ به إحساس أو أحد؟ ولو بعث فينا عبد الرحمن الكواكبي، وقد مرّ فقط قرن ونيّف على صدور كتابه، لَمَا أخذته الرّحمة بنا نحن معشر البشر فحسب، بل بحال كوكبنا أيضًا لِما يتعرّض له من استبداد واستعباد.

وما حاجتنا، ليس أخيرًا، إلى تحيين كتابٍ عن الحيوان، وقد صارت له قنوات باسمه تبث على مدار الساعة أدقّ تفاصيل حياته؟ فعليها شاهدنا كيف تحيض العَيْثومُ وكيف تبيض الزِّبَعْرى، وكيف تَكِرُّ أمُّ فارسٍ وكيف تَفِرُّ أمُّ عامرٍ، وكيف يقضي اليَحْمُور يومه في أعالي الجبال وكيف يقضي الحوت حاجته في أعماق البحار، كما عرفنا منها عن يقظة الدُّبِّ وسُبات الضَّبِّ، وعن قفز السحالي وكُمون السعالي، وحفظنا عن ظهر قلب فصولَ المخلب والنّابِ في شريعة الغابِ… وهي القنوات التي لو شاهدها الجاحظ لطفرت عيناه من محجريهما.

ومنها ما يحتاج فعلًا إلى تحيين، بعد أن جدَّت في أمرها أمور، وبعد أن اتسعت الرؤية والعبارة معًا.

فكتاب ابن المرزبان، مثلًا، عن فضل الكلاب، تجاوزه الموضوع بكثير، ذلك أنّ العالم يعجّ بسلالات منها لم يسمع بها الأقدمون. فالكلاب البوليسية وكلاب الحراسة، وكلاب الصيد الأفغانية وكلاب الرعي الألمانية، وكلاب أتيكا اليابانية وكلاب الهاسكي السيبيرية، وكلاب البيتبول والكانيش والدوبرمان والدلماسي والإسكيمو والبولدوغ والتشاوتشاو وكثير غيرها، لم تكن مِمَّا ينبح في المضارب ويُستنبح في الصحاري، ويقعي عند الأَطْناب ويُلَقّم حجرًا كلّما عوى.

لم يكن السّلف الصالحْ يعرف عن كلّ نابحْ، ففي تلك العهود لم يكنِ العرب قد ارتادوا الآفاق كما الآن، فعرفوا عنها ما نعرف. ولم تكن الحياة قد أناطت بالكلاب ما تنيطه بها حاليًّا من تعقُّب المجرمين وضبط الممنوعات وجرّ الزّلّاجات في الجبالْ، وغير ذلك من الأفضالْ التي لا تخطر على بالْ، بالِ ابن المرزبان أو حتى بال المعري.

فقد نصدّق أنّ شيخ المعرّة كان يحيط بلغة الضّاد إحاطةً كاملة كما يتردّد، لكنّنا لا نصدّق أنّ لغة الضاد نفسها كانت تحيط بأسماء كلاب تنبح بعيدًا عن فضائها بآلاف الأميال. لذلك، وجب تحيين فضل الكلاب والتّبرّي بأثر رجعي من معرّة المعرّي.

كتاب آخر أرى أنّه في أمسّ الحاجة إلى التّحيين، هو كتاب البخلاء. ففي مُدَّة الجاحظ، كان للحياة وجهان بارزان فقط، هما المأكل والملبس، وعلى نَوْلهما نسج جدّنا الفذ كتابه الخالد. أمّا الآن، فقد أصبحت الحياة تُعاش بأوجه غير مسبوقة، وكل وجه منها يتصرّف حسب قسمات الكرم أو البخل فيه. هكذا أصبح بيننا، فضلًا عن بخلاء العناصر الأربعة: الترابِ والماءِ والنارِ والهواءِ، بخلاءُ الاتصالات والمواصلات، وبخلاء المطاعم والمقاهي والحانات، وبخلاء الغاز، وبخلاء الكهرباء، وبخلاء الدواء…وما من فاتورة إلّا ولها بخلاؤها.

كتبٌ كثيرة في حاجة إلى تحيين، خصوصًا وأنّ الأبواب التي طرق إليها الأسلاف تمَّ تحيينها على أكمل وجه، وصارت بأجراس وهواتف داخلية وكاميرات ومصاعد…

‫تعليقات الزوار

14
  • دظز
    الجمعة 22 مارس 2019 - 07:17

    حسنا فعلت حبذا لو اطلت واسترسلت

  • جواد ابير
    الجمعة 22 مارس 2019 - 07:58

    سأختصر الكلام في جملة واحدة وهي كما يقال عندنا في المثل المغربي الجديد مالو جدا والبالي لا تفرط فيه

  • سعيد
    الجمعة 22 مارس 2019 - 08:05

    التحيين أمر مهما جدا …الحضارة الإسلامية بنيت على تحيين الفكر و الدراسات الاغريقية و الرومانية وما إلى دالك. أوروبا وعصر النهضة قام بفضل تحيين كتب المسلمين و ترجمة الإنجيل من اللاثينية إلى لغات مفهومة…و هدا يتطلب الشجاعة …عندنا أن الوقت للتحيين…و كل المشاكل ناتجة عن بخلنا و عدم تحييننا لكثير من الأشياء حتى أصبحنا نعيش في الماضي والافضع ان الكثير لايريدون الخروج منه…اسكيزوفرينية… سيبويه و ابن رشد حينا المفاهيم اللغوية… وقامت الدنيا…والآن نحتاج الى من يحينهم لكن هيهات…فالاعداء يعرفون هدا جيدا و يفعلون كل ما في جهدهم لأن لا يتم دالك..انضروا مشكل لغة التعليم …هل نتكلم لغة قديمة دون تحيينها أو ما يتسابق الامازيغ و انصارهم لفرضه من لغة مفبركة…أم نستعمل لغة عصرية جاهزة كالانجليزية…!!! في المغرب لم نجد.الحل بعد 60 سنة…
    ..!!! في نضري لا يوجد مشكل آخر في المغرب غير اللغة …المغاربة مثلا فطنوا و خلقوا لغة جديدة قديمة …متسامحة…وهي الدارجة في انتضار شجاعة اللسانيين و السياسيين و الاسلامويين و أهل التاريخ و والادباء و علماء النفس و الاصوات وووو…في تحيين لغتهم!

  • الغزواني
    الجمعة 22 مارس 2019 - 08:21

    السلام عليكم
    شكرا على الموضوع الشيق. لا تحرمنا من المزيد

  • رضوان
    الجمعة 22 مارس 2019 - 08:44

    و ما حاجتنا الى مقالك. كتاب الف ليلة و ليلة و الحيوان الخ لازال الغرب ينهل منه الأفكار و يؤلف قصصا و يصورأفلاما تأخذ الأبصار. لا عيب في التراث أبدا العيب في من يقرأ.

  • khalid
    الجمعة 22 مارس 2019 - 08:55

    رائع، لأول مرة أستمتع بمقال يعج بمفارقات الماضي البعيد والذي تجد المتعة و الخيال عند قراءته، والواقع المعاش الغني بكل تنوعه السلبي منه و الإجابي والذي يفتقد للمتعة و الخيال عند مشاهدته. لكن خطورته أشد وقعا و مضاضة على المجتمع من وقع الحسام المهند.
    تحية خالصة لكاتب المقال الذي جعلني أرجع إلى إحدى الموسوعات القديمة.

  • mouhcine2210
    الجمعة 22 مارس 2019 - 09:18

    تحية مذهلة من مقهى مذهلة لصديقي المذهل سعد سرحان ….أنا شخصيا لم أعد أندهش كما في السابق من كتاباتك المحبوكة حيث أصبح الذهول نفسه أمرا اعتياديا …

    تحياتي الخالصة

  • مغربي
    الجمعة 22 مارس 2019 - 09:20

    لأول مرة أقرأ مقالا مفيدا . و ما أقل المقالات المفيدة .

  • omar
    الجمعة 22 مارس 2019 - 09:26

    هل تعلم ما البيان بينة غير جلية وفهمك فيه تباين ومقارنة اتعلم ما الحكمة اصبخ الكل يفتي فيما لا يفتى ويتقول سحقا لقوم نسوا حروف الهجاء

  • مغربي
    الجمعة 22 مارس 2019 - 10:16

    رأيي أن هذه الكتب لا تحتاج للتحيين .
    نحتاج لوضعها في الأرشيف .
    و إحضار كتب مفيدة جديدة من عند الفرنسيين و الإنجليز و الأمريكيين و الكنديين ….

  • عابر
    الجمعة 22 مارس 2019 - 14:52

    رايك صحيح من ناحية و طريف من ناحية اخرى.بتلفعل اصبح محتوى بعض الكتب متجاوزا بعد ان جبته المستجدات العلمية ولكن مع ذلك يجب ان لا نتخلى او نستهزء بذاك التراث فمنه نهل العظماء و بنوا قمما اعظم و كما فال اوريد :وفاؤنا للسلف هو وفاء لبؤرة الموقد وليس لرماد اىموقف.عموما مقالة امتعتني رغم كثرة الفلسفة فينا نحن معشر المعلقين.

  • لغزيلي محمد
    الجمعة 22 مارس 2019 - 17:15

    شكرا للاستاذ الكريم. ومزيدا من العطاء.ما أحوجنا لكتابات جادة.

  • حنظلة المغربي
    الجمعة 22 مارس 2019 - 18:16

    شكرا لك على هذا المقال .أليست هي دعوة مباشرة لتحيين العقل العربي/المغربي مماعلق به من صدأ ورطوبة و…لك الفضل سيدي ولكل المفكرين المغاربة الغيورين على هذا الوطن.والله لأجد متعة مابعدها متعة وأنا أقرأ لكتاب ومفكرين مغاربة.

  • الاشكر
    السبت 23 مارس 2019 - 09:27

    تحية طيبة للصديق والزميل سعد.
    وفق الله وأنار طريقك للمزيد من العطاء

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة