النزوح الرقمي للشباب المغربي .. من الانعزالية إلى الفردية الجماعية

النزوح الرقمي للشباب المغربي .. من الانعزالية إلى الفردية الجماعية
الإثنين 8 أكتوبر 2018 - 05:30

يشهد المغرب حاليا نزوحا من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، في خضمّ التزايد المطرد لرواد الشبكات الاجتماعية، وهو ما ساهم في أن تتحول كثير من الأفعال التي كانت فردية ومنعزلة في السابق إلى جماعية اليوم، مثل الهجرة العلنية عبر قوارب الموت و”الفانتوم”.

إن سبب النزوح الرقمي في علاقته بشريحة الشباب مرده إلى تآكل المرجعيات، هذا التآكل يدفع إلى إعادة النظر في المنظومة القيمية. كيف يمكن إذن التداول في علاقة الشباب بالقيم (المادية وغير المادية) لاسيما مع الطفرة الرمزية التي تتيحها وسائل الاتصال الجديدة؟ وكيف يمكن مقاربة تمفصلات السلوك السياسي للشباب في علاقته بالبيئة القيمية الافتراضية؟

للإجابة على هذه التساؤلات يمكن اعتماد فرضية عامة مفادها أن مقولة النزوح الرقمي للشباب في علاقته بالاحتباس القيمي يتم عبر انتقال من قيم واقعية مرفوضة إلى قيم افتراضية مفوضة. من هذا المنطلق يمكن رصد مباشرة تضارب إشكالات وقضايا العالم الافتراضي، مع العالم القيمي وبعض المرجعيات المجتمعية المغربية مع الإشارة إلى معطى الطابع التكميلي للشأن الشبابي في السياسة العمومية وإبعاده عن محور الإصلاح والتجديد والتغيير، وكذلك مركزة الثقافة في بعض المدن وخلق الهامش الثقافي الذي يتسم بفقر وشح الأنشطة والمشاريع الثقافية؛ ما يدفع إلى الحديث عن مغرب ثقافي نافع ومغرب ثقافي غير نافع.

ومن النتائج المباشرة لهذا الواقع يمكن الإحالة على النزوح الجماعي للشباب من الفضاء الواقعي إلى الفضاء الافتراضي على اعتبار أن جدلية تقاطع الوطني والجهوي والمحلي تمر عبر الفضاءات الشبابية الجديدة، لا سيما منها المواقع الإلكترونية المحلية والترابية والجهوية على شاكلة منابر “إعلامية” “ترافعية” “تثقيفية” و”توعوية”؛ ما أدى إلى ظهور سلوكات قيمية جديدة: الكومنتير – البوز- الهاشتاك- التغريدة – بودكاست- سكوب- التفويض الرقمي – الجنس الرقمي- الإدمان الرقمي – الانهزامية الهوياتية (رفع أعلام دول أجنبية – إسقاط الجنسية – إحراق جواز السفر…)، وكذلك إعادة تسييس الشباب وبروز جيل جديد من الشباب الافتراضي عبر تنشئة تفاعلية.

ومن خصائص هذه التنشئة التفاعلية تفاقم بؤر التوتر وانتشار قيم العدوانية بين شرائح هذا الجيل الجديد من الشباب، من قبيل التراشق الهوياتي والإثني كالإحالة على الأمازيغوفوبيا والقومجية والاكسنوفوبيا والعنصرية والفاشية… ما يمكن تفسيره بأن معظم الشباب الافتراضيين المتدخلين في هذه الحقول لا يثقون في المبادرات السياسية العمومية التي ترمي إلى تقصير المسافات بين الهويات والثقافات وترسيخ دولة التنوع.

كما أن الفضاء الرقمي أزاحَ كثيرا من الحواجز التي كانت قائمة في السابق على المستوى المجالي حيث كان مركز الاحتجاجات هو العاصمة، بينما أضحت اليوم تنظم في مختلف مناطق المغرب، ولم تعد ممركزة فقط في العاصمة. والشيء نفسه بالنسبة لتداول الأخبار؛ إذ أضحى الشباب يهتمون أكثر بالأخبار المحلية بعدما كان الاهتمام في السابق منصبا أكثر على الأخبار الوطنية “القادمة من الرباط”.

على هذا الأساس يمكن طرح التساؤلات التالية: ماهي القيم التي يحملها هذا النزوح الرقمي؟ ما هي الفرص التي يقدمها لتعزيز قيم المواطنة والحرية والديمقراطية؟ ما هي التحديات التي يطرحها على مستوى محاضن التنشئة (الأسرة، المدرسة، جمعيات المجتمع المدني، الأحزاب، الدولة…؟)

يمكن الإقرار بأن من القيم الجديدة التي أتاحها النزوح الجماعي للشباب إلى العالم الافتراضي يمكن سرد، لا للحصر، قيم الفردية الجماعية (Singularité collective) التي من نتائجها تماهي الفرد مع الجماعة وتماهي الجماعة مع الفرد وخروجه من الانعزالية عبر فعل افتراضي منظم (“مقاطعون”– “مستمرون”– “مداويخ”– “مهاجرون”…) حيث يعبر عن الفردانية بصيغة الجمع.

يمكن كذلك لفهم هذه القيمة الجديدة الاستعانة بمفهوم الفاعلية (Agency) الذي يصف ويفسر قدرة الفرد في الفعل والاختيار متجنبا ومتحديا العوامل المؤثرة (الوطن–الطبقة الاجتماعية–الدين-النوع–الاثنية–الرابط الاجتماعي…) التي يمكن أن تحدد وتقنن قراراته وقيمه (فيديوهات وتصريحات شباب “كاريان حسيبو” بعين السبع).

كما ظهرت قيم “التضامن المتحرك” بحسب الوقائع والأحداث الراهنة والمتواترة في شكل ملصقات وصور وشعارات متضامنة مع حدث أو شخص أو شعور ما، كما هو الحال مؤخرا فيما يتعلق بصورة “حياة”، الشابة التي توفيت خلال محاولتها العبور إلى إسبانيا.

كما تبرز كذلك قيمة “الرقابة الافتراضية” حيث يصبح الشاب في تربص مستمر للوقائع والحقائق التي تمس الحياة العامة للمغاربة عبر ثقافة المكاشفة والمجاهرة والفضح من خلال فعل النشر والمشاركة: “لوح في فيسبوك” أو “واتساب” أو “يوتيوب” لكشف وعرض بعض تمظهرات الواقع المعيش.

كما طفت على السطح بالموازاة “القيم المادية” (الصحة والشغل والتعليم والسكن) وتراجعت القيم غير المادية من قبيل الحريات الفردية وحرية المعتقد والحقوق اللغوية والثقافية وإلغاء عقوبة الإعدام… مع جذوة نوعية لقيم مثل قيم الكرامة والتوزيع العادل للثروات ورفض الحكرة.

في المقابل، تناسلت أشكال ثقافة الكراهية من خلال هوامش رمادية تؤطرها تجمعات افتراضية (جنسية أو عقدية أو مجتمعية…) تنهج تنشئة متوحشة ترمي إلى خلق احتباس قيمي أساسه التشجيع على العنف المادي والرمزي تجاه بعض شرائح المجتمع (المرأة–الأقليات…) أو بعض مسلمات المشترك المغربي من قبيل الدعوة إلى إسقاط الهوية الوطنية والمس برابط التمغربيت.

كما تجدر الإشارة إلى أن هذا النزوح الجماعي للشباب إلى العالم الافتراضي خلق فرصا جديدة لتعزيز قيم المواطنة والحرية والديمقراطية، لا سيما أن الفضاء الأزرق أضحى فضاء للممارسة السياسية من خلال النشاط السياسي الرقمي (الهاكتيفيزم)، وقناة موازية للوساطة الاجتماعية نظرا لتراجع وتقويض بل وإلغاء دور المجتمع المدني والأحزاب السياسية وتحييد أثر الشعور بالمواطنة الواقعية وبزوغ نجم المواطنة الافتراضية.

هذه الوضعية الجديدة تأسست على نمط مغاير من الفعل المواطناتي ألا وهو الاحتجاج الرقمي في أفق عدم جدوى وتأثير الاحتجاج الواقعي، وهذا ما أفرزته حصيلة حملة المقاطعة؛ ما نتج عنه عصيان مؤسساتي يظهر من خلال تراجع الانخراط في البنيات المنظمة (الأحزاب والجمعيات….) وتعويضها بمواقع جديدة للترافع على القيم والمطالب الاجتماعية (ملاعب كرة القدم…) يتم التعبئة لها ومركزتها من خلال الافتراضي، لا سيما عبر خطاب وشعارات الألترات الرياضية.

في هذا السياق يبدو أن التحديات التي يطرحها النزوح الجماعي للشباب إلى العالم الافتراضي أثرت على دور محاضن التنشئة (الأسرة والمدرسة والحزب والجمعية…) بالنظر إلى توغل بنيات موازية من قبيل التجمعات الافتراضية والهويات التعويضية والغرائبية الثقافية والقيم الصاعدة من قبيل “الحريڭ” العلني والانتحار و”التشرميل” والعنف الجنسي والانعزالية (العميقين) في خضم تراجع مقولة مجتمع المعرفة كمنظومة تؤطر القيم والسلوكات وتحتضن المشاريع العامة للشباب، وفي أفق التحول من مجتمع التواصل إلى مجتمع الاتصال والمكاشفة.

فالعلاقة بين الشباب والقيم، سواء في العالم الافتراضي أو الواقعي، علاقة متفاوض عليها في أفق بعث وتكريس مشاعر المواطنة والعيش المشترك والانتماء الجماعي نظرا لتراجع القيم غير المادية من قبيل المطالبة بالمناصفة وإلغاء عقوبة الإعدام وحرية العقيدة والحق في اللغة والحق في الثقافة… وعودة القيم المادية مثل التشغيل والصحة والتعليم والمواصلات والبنيات التحتية والسكن والبدائل التنموية والأمن… وراهنية قيم الحياة التي تجسدها مسيرات العطش وغلاء المعيشة ونسبة الوفيات (الرضع–النساء الحوامل) وبعض الأوبئة (السل: وليشمانيا…)، وتفاقم الإحباط المجالي والحكرة الترابية والحق في العيش الكريم…

*أستاذ علم الاجتماع

‫تعليقات الزوار

4
  • فضولي عندو رأي
    الإثنين 8 أكتوبر 2018 - 06:00

    لدي رأي اخر واقعي وبدون ماكياج مع احترامي لسعادتك…. لان العالم الافتراضي يعد اكبر مطرح لممارسة الخيال و التقلد بشخصيات ليست حقيقية و لعب دور الشريف و الامن و الصادق و انتقاد الاخر انتقادات فارغة ولان الفضاء الافتراضي مطرح يسهل فيه لعب عدة ادوار وتبيان وجه يخفي خلفه العديد من الحقائق هروب الى الخلف بمعنى الحقيقة. كيف يمكن للانسان ان يواجه مواجيعه وهو لا يتمتع بادنى قوى فكرية و اخلاقيات تمكنه من النزوح الحقيقي من الحالة العصيبة التي هو فيها الى حالة افضل؟؟؟ فكان ولابد على بعض الناس الذين يفتقدون لروح تحديات الحياة و التحلي بالصبر لمواجهة مشاكل الحياة بكل رجولة الى الهروب الى عالم الكذب حيث يتم الاقبار الجماعي لكل ما هو حقيقي

  • الحسين
    الإثنين 8 أكتوبر 2018 - 12:31

    اذا اردنا ان نلخص نتيجة ما قراناه في هذا التحليل من زواية أخرى ان من بين الاسباب التي ادت الى تخبط هؤلاء الشباب هو بعده عن الدين الإسلامي وتعاليمه ومن هذه الأسباب الذي جعلته يفر من الدين هو هجوم الإعلام الغربي والعربي المقروء والمسموع والمرئي على التدين والمتدينين وكل ماله صلة بالروح ويصور الإسلام لهم على أنه دين تخلف وعنف وتطرف وارهاب. الخ.
    وفي المقابل يصور لهم الحادثة والتنوير والانفتاح والانحلال الخلقي من خلال افلام التركية والمكسيكية و موازين الخ على أنها هو السبيل للتطور والرقي. فحق عليهم قوله تعالى والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة بحسبه الظمىان ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئا.

  • بات
    الإثنين 8 أكتوبر 2018 - 16:49

    مقال جيد شكرا لكم أستاذ، صحيح الشباب حاليا هاجر بشكل كلي إلى العالم الإفتراضي الرقمي ولم يعد قادرا على إستيعاب ما يدور حوله سواء محليا أو وطنيا أو دوليا بل أصبح أداة للشحن والتجييش وينساق وراء ما يحدث بشكل عاطفي فقط دون تحليل أو محاولة الفهم، ومايثير الإستغراب من خلال تفاعل الشباب مع العالم الإفتراضي تمسكه بمكارم الأخلاق والظهور بصورة الشاب الفاضل والسوي في حين أن ما نشاهده في الشارع من سلوكيات غير حضارية يومية من تحرش وسب وقذف وإجرام وعربدة وعدم قبول الاخر وتدمير لمحيطه البيئي
    لقد إنهارت الأسرة المغربية ولم تواكب التطور الهائل والسريع للمجتمعات في العالم ككل والمغرب الأن كسائر الدول المتخلفة يجني ثمار دمار الأسرة وهو الشباب الذي يصارع لوحده غول الإنفتاح والتطور الرقمي المتوحش دون حماية تذكر، والقادم أسوأ إذا لم تنقذ منظومة الأسرة

  • مروان
    الإثنين 8 أكتوبر 2018 - 17:08

    كحل لهاته الظاهرة التي يتعرض لها الشباب يمكن استعمال مواقع التواصل الاجتماعي كوسيلة للتحفيز عبر متابعة الاشخاص الناجحين في شتى المجالات من خلال اكتساب مهارات تساعد الشاب من تغيير تفكيره من شخص سلبي يفكر في الهجرة او كثرة الانتقادات الفارغة الى شخص ايجابي طموح يسعى للتغيير وشكرا

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 10

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج