الصحافة المكتوبة حية لا تموت!

الصحافة المكتوبة حية لا تموت!
الأربعاء 23 يناير 2019 - 22:01

في أحيان كثيرة يتبادر إلى ذهني السؤال المزعج الآتي: هل يا ترى نحن جيل محظوظ بهذه التكنولوجيا التي أصبحت تختزل الوقت والمشاعر أم أننا جيل لا يحسن استخدام نعم هذا العصر عليه؟.. وهل يمكن أن نستيقظ يوما ما لنجد الشوارع خالية من الجرائد الورقية ومن بائعي الجرائد والكتب؟.

ثم ماذا عن المشهد الثقافي الراسخ بأذهاننا، حيث لا يسعنا أن نتخيل كاتبا أو روائيا أو قارئا نهما يطل من على شرفته على نهر أبو رقراق أو النيل أو الراين وفيروز تعطر صحو صباحه وفنجان القهوة الذي تعانق نسماته السماء دون وجود الجريدة على الطاولة؟ ألن يبدو المشهد غير كامل؟.

صاحبة الجلالة تتساءل اليوم في ظل ما تواجهه من تراجع من ناحية الانتشار والإقبال وتحقيق الأرباح والمنافسة الشرسة للصحافة الإلكترونية لها عن مستقبلها.

صاحبة الجلالة بات على ما يبدو عرشها مهددا وهي اليوم تسأل: هل يخذلني القارئ الذي ربطني معه عمر من النجاحات والأحداث والصعوبات والتهديدات والتحديات؟..هل يستغني عني في مقابل متابعة الأخبار على الهواتف الذكية أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي؟..وما مصير الشباب وقراءة الصحف؟.. وهل يحكم علي القارئ بالموت في ظل عصر السرعة والتطور التكنولوجي؟..وهل أصبحت عبئا على القارئ الذي بات يفضل كرائي بدرهم واحد من طرف أصحاب الأكشاك؟..وهل يتخلى عني أصحاب المقاولات الصحافية لأنني لم أعد سلعة مربحة تذر دخلا جيدا ولم أعد سلعة دائمة الثمن؟..وهل يجهض ارتفاع ثمن الورق ولادة حبري وإقباله على الحياة؟..وهل تقضي علي منافستي حديثة العهد، الصحافة الإلكترونية؟..أليس من الممكن أن تكون هناك حاجة ملحة إلى كلانا في هذا العصر لإرضاء مختلف أذواق القراء؟..وهل يمكن أن أتنحى في ثورة مفاجئة من منصبي؟ وهل سيليق بغيري لقب “السلطة الرابعة”؟…أسئلة كثيرة يطرحها واقع الصحافة المكتوبة ونطرحها نحن أيضا.

قال الكاتب المصري “مصطفى الفقي” في مقال له في صحيفة الحياة اللبنانية: “لقد قالوا إن لكل زمان آية وإن الصحافة هي آية الزمان، وذلك صحيح لأنها سجل التاريخ ودفتر الأحوال، وقد يكون وجودها الإلكتروني مطلوب في عصر السرعة، ولكن وجود الطبعة الورقية مطلوب أيضا في عصر المؤثرات التاريخية؛ فالعلاقة الحميمة بين القارئ والجريدة الورقية هي علامة تتمتع بدرجة من الثبات ولا تقبل الاهتزاز أمام مؤثرات عابرة، وسوف نظل نحتفي دائما بالطبعة الورقية حتى بعد أن نستمتع بقراءتها إلكترونيا حتى تبقى لدينا سجلا لا ينتهي ومصدرا للخبر والرأي لا يتوقف أبدا في تدفقه وسهولة تداوله ويسر الاحتفاظ به”.

لقد صدق هذا الكاتب في ما قاله؛ فأهمية الصحافة المكتوبة يصعب غض البصر عنها رغم كل التهديدات التي باتت تواجهها، وإننا إن أردنا الحديث عن مدى أهميتها بالمغرب فلا يمكننا أن نختزل القصة في سطر أو سطرين؛ ذلك أن الصحافة المكتوبة يربطها تاريخ وعلاقة وطيدة وقوية وخاصة بالمغرب كبلد.

ففي عهد الاستعمار، وفي وقت كان المغرب محاطا بالأطماع من الاحتلال الاسباني شمالا والاحتلال الفرنسي وسطا، برز في هذه الفترة بالذات دور الصحافة المغربية التي لعبت دور البطل الهمام في تحرير المغرب من براثن الاستعمار. ومنذ ذلك الحين اكتست الصحافة المكتوبة قيمتها ومكانتها لأنها كانت داعمة للحركة الوطنية ومكافحة ضد الاستعمار. ولا يسعنا ونحن نتحدث عن الحركة الوطنية ألا نذكر أبرز زعمائها وعلى رأسهم: محمد حسن الوزاني وعلال الفاسي وأحمد بلافريج ومحمد اليزيدي، وغيرهم ممن جعلوا من الصحافة المكتوبة أولى الوسائل لمواجهة مختلف أنواع الظلم في عهد الحماية.

فبدءا من سنة 1932 تم الشروع في تأسيس جرائد كان هدفها الأول والأخير هو تمرير المطالب الوطنية، ثم توالى بعد ذلك بروز الصحف مثل l’action du people بفاس، وهي أول جريدة مغربية وطنية ناطقة باللغة الفرنسية سنة 1933، كان يترأسها حمد حسن الوزاني؛ بالإضافة إلى جرائد أخرى نذكر منها على سبيل المثال “جريدة الريف” بتطوان، ثم “جريدة المغرب والتقدم”، وغيرها من الصحف التي كانت لسان حال المغرب، تدافع وتعبر عن رغبته في الحصول على الاستقلال.

كانت النخبة المثقفة والطلبة يناضلون في زمن الحماية من خلال الصحافة المكتوبة للتعبير عن أهم المطالب والقضايا السياسية والدفاع عن الهوية المغربية. ومن جملة القضايا الهامة التي توجهت إليها الصحف آنذاك هي القضايا التي كانت تفضح أطماع المستعمرين، كاستغلالهم لخيرات البلاد وإفقارهم للشعب المغربي، هذا بالإضافة إلى المواضيع الأخرى، والتي تخص مجالات متعددة، كقطاع التعليم الذي كان يعرف عدم تكافؤ للفرص بين التعليم الموجه للأوروبيين ولليهود المغاربة ثم المسلمين.

هكذا إذا يتضح لنا كيف لعبت الصحافة المكتوبة بالمغرب دور المقاوم؛ فكانت بمثابة الحسام الذي ينخر ضلوع المستعمر. ولعلنا كمغاربة مدينون جميعا بجزء كبير من حصولنا على الاستقلال للدور الذي قامت به الصحافة المكتوبة حينها؛ فلقد استطاعت بفضل النخبة المثقفة من ذوي الرأي والفكر والقلم أن تترك بصمة لا غبار عليها، لأنها كانت تحمل أبعادا وطنية وساهمت في التعريف بالقضية المغربية في المحافل الدولية.

فهل يا ترى تقدر الصحافة المكتوبة، التي واجهت المستعمر، على البقاء وبقوة جنبا إلى جنب مع الصحافة الإلكترونية؟..ولماذا التنبؤ بنهايتها؟ أو ليس القراء مازالوا يتوافدون على باعة الكتب ومازال الباعة يكسبون لقمة العيش من بيعها حتى في ظل إمكانية قراءة الكتب على الإنترنت؟..أو ليست المكتبات تقتني الجرائد لبيعها متيقنة من وجود شريحة تدمن لمس الورق وتقليب صفحاته والتكيف مع مضمون الصحف؟..وإذا كان كل ما هو مكتوب مهدد بالزوال كما يقال فلماذا يستمر السياسيون والإعلاميون والصحافيون أمثال مصطفى العلوي والصديق معنينو وغيرهم في تأليف كتب تحكي عن مشوار عمرهم وعن أحداث ومحطات هامة بحياتهم، إن لم يكن الهدف هو تخليد ما كتب باعتبار الصحافي بمثابة مؤرخ؟.

ثم ماذا عمن يعتبر أن في بقاء الصحافة المكتوبة ضمانا للديمقراطية، إذ يقول عميد كلية الإعلام اللبنانية الدكتور “جورج صدقة” في مقال له بعنوان “كيف ننقد الصحافة المكتوبة؟”: “الصحافة المكتوبة هي مرادف للحريات العامة وللنظام الديمقراطي، وغيابها هو تغييب لثقافة التعدد والحريات العامة ولحرية القول والفكر والنقد. إن غياب الصحافة الورقية يحمل مخاطر على النظام الديمقراطي ويحرمه من أحد أجهزته الرئيسية. فلا التلفزيون ولا الإذاعة ولا المواقع الإلكترونية على أهميتها لا تستطيع أن تحل مكان الصحيفة المطبوعة. فتحليل الخبر والتعليق عليه وتناول خلفياته وأبعاده وإغناؤه برأي المعلقين والمحللين وتوسيع مروحة التغطيات إلى قضايا محلية وعالمية، لا يمكن إلا للصحافة المكتوبة أن تقوم به. هذه الركيزة الورقية التي تأخذ مسافة عن الحدث للتمعن فيه وتمرره في المصفاة المهنية لتنقيته من الشوائب ثم تقدمه في قالب يسمح للقارئ بالتمييز بين الخبر المهم والأقل أهمية وتضيء على خلفياته بشكل شفاف ومن مصدر معروف، وتسمح بالعودة إليه والتمعن فيه بسهولة…إنها ميزات الصحافة المكتوبة التي تجعلها متقدمة على غيرها من الركائز الإعلامية الأخرى”.

يبدو مما سبق أن ميزات الصحافة المكتوبة أكثر من عيوبها، وإن كنا لا ننكر وجود بعض المعيقات في عصرنا الحالي، والتي تتجلى أساسا في غياب القراءة وتقلص شريحة القراء الأوفياء، فقلة فقط من يعرفون قيمة الجريدة الورقية في ظل اكتساح البعبع الإلكتروني لحياتنا. لكن هذا لا يمنع أبدا حقيقة أن ليس فقط الصحافة المكتوبة، بل كل ما هو مكتوب على ورق، من صحف ورقية وكتب، تبقى بعيدة عن سهولة التحريف الذي قد يطال الصحافة الإلكترونية، والذي يكفي لحدوثه الضغط بكبسة واحدة على الزر، على عكس الصحافة الورقية والكتب التي هي عبارة عن وثائق خالدة.

ولعل وهم التهديد الذي يواجه الصحافة الإلكترونية اليوم هو ذاته الذي يواجه الكتاب الذي صار متوفرا بالنسخة الإلكترونية. ويحضرني بهذا الصدد ما قالته الشاعرة والإعلامية البحرينية “بروين حبيب” في مقال لها نشر بجريدة القدس العربي بعنوان “مهمة مستحيلة” حيث قالت: “أما تلك القاعدة التي نشرت الرعب في الأوساط الثقافية على أن مستقبل الكتاب مظلم وسط تزايد انتشار تقنيات المرئي والأونلاين، فهي مجرد تهويل قصير المدى. لقد أثبت الكتاب أنه كائن متأقلم مع كل اختراع جديد يجذب الأجيال الجديدة. تنتشر اليوم مقاطع فيديو ترويجية للكتاب، وبالمقابل تنمو يوميا نوادي قراءة لا تعتمد سوى على النسخ الورقية منه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قوة الكتاب في فرض حضوره، حتى ظاهرة pdf التي انتشرت بين الجمهور يجزم البعض أنها في تراجع، فبعض المواقع مثلا تقترح نسخا مشوهة تماما للكتاب، فيما بعضها يكون مفخخا بالفيروسات، كما يحتاج القارئ أحيانا إلى طبع تلك النسخ المحملة تفاديا لتعب العيون وتأثير شاشات الكمبيوتر السيئ عليها أثناء القراءة”.

أفلا يمكن للصحافة المكتوبة أن تثبت بدورها أنها كائن متأقلم يستطيع فرض وجوده تماما كما استطاعت سابقا مع ظهور التلفزيون؟.

بعد كل ما قيل أعتقد أنه حان الوقت لنغير السؤال المطروح منذ ردح من الزمن، فعوض أن نسأل هل ستعيش الصحافة المكتوبة؟ علينا أن نقول: ما الذي يتوجب علينا فعله لكي تتعايش الصحافة الورقية وتستمر في التنفس جنبا إلى جنب الصحافة الإلكترونية؟..ولماذا لا نعتبر الصحافة الإلكترونية خيارا آخر للقارئ ولا تعني بالضرورة الخيار الوحيد للقراءة؟..ألم يحن الوقت بعد لتطور الصحافة الورقية من مضمونها ومحتواها لكي تصبح أكثر إثارة من التلفاز أو الإنترنت؟..ومتى سنشهد رجوع الأقلام الهادفة والجريئة التي من شأنها التشجيع على قراءة الصحف المكتوبة وإعادة الحياة لها؟..ومتى سنفتح الجريدة الورقية ونستمتع باستجوابات واستطلاعات تتميز بالمهنية والمتعة معا عوض ما بتنا نجده من ترهات وإعلانات تغرق الصحف؟.

هذه في نظري هي الأسئلة التي علينا طرحها إذا أردنا فعليا للصحافة المكتوبة أن تستمر وبقوة إلى جنب الصحافة الالكترونية، عوض أن يكون في استمرارها الخالي من المضمون إهانة لتاريخها العظيم.

‫تعليقات الزوار

3
  • محمد رموز
    الخميس 24 يناير 2019 - 14:00

    مقال متميز يستحق الوقوف على مصير ومأل الصحافة المكتوبة في المستقبل لان التكوين الحقيقي للاجيال كان في الجرائد والمجلات والدوريات مما يستوجب البحث عن أقلام تنويرية للرأي العام في الصحافة المكتوبة حتى تبقى الجريدة لها وزن داخل المجتمع وتتوازن مع الصحافة الالكترونية

  • رشيد
    الخميس 31 يناير 2019 - 11:47

    معطيات مهمة، تؤكد أن الصحافة المكتوبة قامت بدور نضالي ومقاوم للاستعمار، وكيف نأتي الآن، ويتحدث البعض أن لامكان لها، هي في حاجة إلى الدعم، في البلد الجار، تجد مدنا صغيرة بها صحف ورقية عديدة، وتصدر يوميا، المشكل عندنا أن قراءتنا ضعيفة، ومع التطور، ودخول عالم الأنترنت وجدها الجل وسيلة للاختباء من أن الوقت هو و قت الأنترنت،والواقع هو أننا شعب مع كامل الأسف لانقرأ

  • د.محمود
    السبت 13 يوليوز 2019 - 01:52

    لا يسعني بعد قرائتي لهذا المقال المميز الا ان اتقدم بالشكر للكاتبة منار على مجهودها الجبار لاغنائنا بمعلومات وحقائق فريدة عن الصحافة المكتوبة وخاصة فيما يتعلق بالجانب التاريخي .

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات

صوت وصورة
حملة ضد العربات المجرورة
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 11:41 17

حملة ضد العربات المجرورة

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 8

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة