على هامش النقاش حول موضوع هجرة العقول والأدمغة

على هامش النقاش حول موضوع هجرة العقول والأدمغة
الأربعاء 10 أكتوبر 2018 - 20:08

On the sidelines of the debate on the issue of brain drain –

يمكن القول بأن ظاهرة هجرة الأدمغة ظاهرة عالمية، لأنها لا تخص بلدا واحدا بعينه، بل أصبحت اليوم تشمل البلدان الفقيرة والنامية وحتى البلدان المتقدمة نفسها. كما لا يمكن الجزم بأن هناك سببا واحدا وراء تلك الهجرة، لأن الأسباب قد تعددت بقدر تشعب مبتغى الأفراد والدوافع وراء اتخاذهم قرار الهجرة إلى ديار أخرى خارج حدود وطنهم أو مسقط رأسهم. وقد أبانت بعض الدراسات بخصوص هذه الظاهرة أن عدد المقبلين على الهجرة من فئة المثقفين والأطر العليا والمهندسين والأطباء والمفكرين قد أصبح في تزايد مطرد وخاصة في البلدان التي بحس فيها المواطنين بالاستياء في ما يتعلق بالبنية التحتية والخدمات الضرورية والتعليم والصحة والأمن والسلامة وعدم الإحساس بالرفاهية والسعادة في حياتهم الاجتماعية ككل.

وقد استوقفتني آراء ومداخلات العديد من الإخوة والأخوات المتصلين بأحد البرامج الإذاعية البارحة عبر إذاعة أطلانتيك (Atlantic Radio) والتي كان لي الشرف بأن أساهم في حلقتها الخاصة بموضوع “هجرة الأدمغة”، أحسست في نهاية الحلقة وكما قال لي أحد الصحفيين يوما ما بأنني لم أقل كل ما كنت أتمنى قوله، فأحسست حينها بــ”غصة في حلقي” وقلت في نفسي لابد من السعي في توضيح الصورة ولو من خلال هذا المقال المتواضع.

لماذا يزداد عدد هجرة الأدمغة من المغرب إلى خارجه اليوم أكثر من أي وقت مضى؟:

ورد على لسان أحد المتدخلين كما قلت، بأن الأعداد فعلا في تزايد، وهذا ربما يشكل خطرا لا على اقتصاد الوطن فحسب، بل حتى على الحركة التنموية التي تشهدها بلادنا وبدون شك، ونشر ثقافة “البحث عن فردوس الغرب”. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تقرر كل هذه الجموع، وخاصة أولئك الذين ينتمون لهذه الشريحة من المجتمع، الخوض في مغامرة الهجرة وتغيير الأوطان، خاصة حينما نسمع أن بعض هؤلاء له مرتب محترم في بلده ووضعيته المالية مريحة أو يحسد عليها!!!…، فهل كل هذا له علاقة بتأثير وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي (Social Media) الحديثة وإغراءاتها اليومية الحثيثة؟!.

فإذا كان هؤلاء، رغم وضعيتهم المالية المحترمة، يفضلون الهجرة والعيش خارج حدود الوطن، فلا شك أن هناك أسباب ودوافع قوية وراء ذلك، وبالتالي يجب أن لا نلوم إذاً التعساء والبؤساء المنتمين إلى مجتمعنا الذين لا حول ولا قو لهم إذا ما ركبوا أمواج البحر وعبابه بحثا عن العيش في ذلك الفردوس، ليموت بعضهم غرقا ويلقى حتفه!!!…

وكما جاء على لسان مذيعة البرنامج المحترمة أن “حتى شي قط ما كيهرب من دار العرس!!…”، وأقول بالفعل أن القطط تحس بنشوة الحياة والسعادة لما ترى الكل فرح والكل ينتشي بالحرية والسلم والسلامة؛ أما إن أحس هذا القط بأن ممرات ذلك العرس وزواياه يتبادل فيها المدعوون أنواع الكلمات النابية ويشتم أو يسب بعضهم البعض علانية، وتصل فوضاهم تلك إلى درجة التراشق بالكراسي، وتُطربق الصحون فوق رؤوسهم، فلا شك أن جميع القطط ستبدأ في التفكير في مغادرة “دار العرس”، حتى تجد عرسا آخر حتى ولو داخل أرض الوطن، تنعم فيه بالطمأنينة والسعادة وهي واضعة رجلا فوق رجل وتنتشي بلذة “غريبة” و”الفقاص” وحتى”كعاب الغزال” تحت زغاريد براريد الشاي في كؤوس “البلار” إن وُجدت…

كيف نحد من تزايد عدد هجرة العقول والأدمغة؟:

إن لتكريس أو نشر بعض الثقافات الخاطئة في المجتمع له دوره في انتشار هذه الظاهرة. فمثلا القول بأن الحياة في الغرب جنة وأنها خالية من المتاعب والمحن، هي مقولة مغلوطة. إذ الحياة هناك تعج بمشاكل قد تختلف في نوعيتها، لكنها تبقى مشاكل يتخبط فيها المواطنون هناك والوافدون أيضا. فالحياة في الغرب ليست بفردوس، كما يعتقد البعض، فقد فقدت فيها أسر أعز ما لديهم، أي أبنائهم وفلذة أكبادهم، إذ انغمسوا في حضارة وثقافة الغرب بكل حذافيرها وانسلخوا كليا من هوية وثقافتهم بلدهم الأم (أو بالأحرى بلد آبائهم)، لينتهي بوالديهم المطاف في دور العجزة والمسنين؛ لكنها فعلا حياة تختلف عما سواها لأن ومقوماتها تخضع لمقاييس اقتصادية واجتماعية وثقافية مختلفة، وتهتم بالإنسان أو الفرد كعنصر هام داخل المجتمع، بفلسفة مبنية على مبدأ تكافئ الفرص.

ولذلك أصبح من الضروري في وقتنا الحالي الاهتمام بصناعة الإنسان والعمل على تطوير مداركه ومهاراته، بدلا من التركيز على صناعة المواد الاستهلاكية فقط. ومن أجل الحد من هجرة العقول والأدمغة، لابد من الاهتمام ومعالجة ما يلي:

تطوير البنية التحتية وتحسين جميع الخدمات من أجل توفير سبل الراحة والرفاهية للأفراد والأسر داخل المجتمع؛

تعزيز مبدأ المساواة وتكافئ الفرص؛

تطوير المدرسة العمومية والرفع من مستوى مردوديتها وتحسين فضائها الداخلي والخارجي، للتخفيف عن المواطنين عبئ تكاليف الدراسة في المدارس الخصوصية؛

تحسين قطاع الصحة بجميع مرافقها، والسماح للكل بالتمتع بالتغطية الصحية في المدن والبوادي؛

تحسين قطاع العدل بجميع قوانينه ومرافقه،

تحسين قطاع الإسكان وجودته والرفع من جماليته الهندسية، وصون كرامة الفرد؛

تقريب الإدارة من المواطنين بشكل فعلي وواقعي والحد من كل أنواع الفساد؛

تكثيف الأمن وقوات التدخل السريع في جميع القرى والمدن من أجل الحد من الجريمة وانتشار المخدرات والموبقات؛

جلب العقول المهاجرة من مغاربة العالم من المفكرين والباحثين في جميع المجالات وإدماجهم في الناتج الفكري والصناعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي المحلي؛

تشجيع قطاع البحث العلمي وخلق روح التنافس الشريف مع الزيادة في الدعم المادي والمعنوي للباحثين.

الحد من هجرة العقول والأدمغة الوطنية وتصديرها إلى الخارج وذلك بوضع آلية تحفيز ومكافأة عالية وترقى إلى مستوى الباحثين والمستوى الدولي؛

ربط نظام الترقية بالإنتاج العلمي والفكري والمساهمة في ورش التدريب والمؤتمرات العلمية وغيرها.

خلاصة:

إذا كان مفهوم المواطنة الحقة يتطلب التضحية، فالعيش الكريم بدوره يتطلب الجرأة والصدق من طرف المسؤولين في تحسس وإبراز مكامن الخلل وإيجاد الحلول الناجعة لمعالجتها وتقويمها من خلال إجراءات تخضع لجميع معايير الجودة الشاملة لضمان فعاليتها ونجاحها، مستحضرين في ذلك الوازع الديني والأخلاقي. فلا شك أن الكل يطمح إلى حياة كريمة شريفة يتمتع فيها المواطن بالحق في كسب المعرفة والخبرة والعمل والحصول على وظيفة، وفي حق الترقية والتدريب المصاحب أو الموازي، والاعتراف بالجميل والمكافئة على كل عمل يخدم الصالح العام سواء في القطاع الحر أو العمومي.

وإذ نتساءل، كما يتساءل الجميع عن الدوافع التي تجعل المثقفين والعقول أو الأدمغة تفكر في الرحيل أو الهجرة، فلا بد أن نستحضر فكرة “الهجرة المعاكسة”، أي نفكر في إمكانية الاستفادة من العقول المهاجرة وخبراءنا في دول المهجر وكيفية الاستفادة من خبراتهم، وتكثيف وتعزيز حضورهم وتواجدهم داخل مؤسسات الوطن قصد إفشاء ثقافة عصرية حديقة تواكب العصر ومتطلباته (بدلا من توارث المناصب والكراسي)، تسعى إلى نشر المعرفة والرقي. كما يجب العمل على تحسين المنظومة الأخلاقية بالموازاة مع مشروع إصلاح منظومة التربية والتعليم، وإصلاح حال الشارع المغربي والعمل على أن يسود فيه الاحترام التام وأن يخلو من جميع مظاهر السب والشتم والقذف والتحرش والجريمة والمخدرات وجميع الموبقات. وكما قالت إحدى السائحات حين تواجدها في أحد الشوارع المزدحمة في المدينة وهي تولول قائلة: “عليكم بتكثيف دوريات التدخل السريع < سكيوريتي دغية>”، على حد قولها لما رأت مظاهر الإجرام علانية وبوضح النهار.

فلا بد إذاً من استحضار الخطوط العريضة لتوصيات الواردة في الخطابات السامية لصاحب الجلالة نصره الله والرامية إلى وجود مدرسة عمومية قوية وذات مناهج ومقررات دراسية قوية ومُحكمة، ورد الاعتبار إلى مسالك العلوم الإنسانية ومسالك علوم التربية بالجامعات، والعمل على إيجاد بنية تحتية متكاملة ومرافق حديثة وفضاء داخلي وخارجي للمدارس نظيف وجذاب وخال من جميع الشوائب والموبقات، فضاء يجلب التلاميذ والطلاب وينمي فيهم روح المواطنة الحقة والمثابرة والتنافس الشريف والنزيه والمحبة، ويعزز فيهم روح الانتماء والافتخار بالهوية ومحبة البر بالوالدين واحترام الغير، والسعي إلى فعل الخير والإحسان، مما يزكي ويثري حقيقة مقولة “اللهم قطران بلادي ولا عسل البلدان!”.

“أكعاون ربي”

والله ولي التوفيق،،،

*خبير دولي في مجال التربية والتعليم، مستشار

[email protected]

‫تعليقات الزوار

4
  • الدكالي
    الأربعاء 10 أكتوبر 2018 - 23:53

    تحياتي فضيلة الاستاذ المحترم
    موضوع يلامس عن قرب وتجربة ظاهرة هجرة الادمغة ويعطي حلولا واقعية لمعالجتها.

  • سالم ابن رميح
    الخميس 11 أكتوبر 2018 - 07:20

    بسم الله الرحمن الرحيم
    موضوع شيق وفي محله..
    مع الاسف ظاهره قديمه في العالم العربي
    وأسبابها كثيره….علي سبيل المثال ،;
    الاوظاع الاقتصاديه المترديه.
    جودة التعليم
    الحوافز
    التشجيع و التقدير
    البيئه
    المجتمع ما يشجع……الخ

    عموما…بارك الله في الدكتور عبدالله وسدد لسانه و قلمه…
    احسنت في ما كتبت…
    ختاما….الهم اصلح حال الامه
    تحياتي للجميع

  • د/ محمود آشي
    الخميس 11 أكتوبر 2018 - 14:06

    بعد التحية والتقدير لدكتورنا الفاضل
    ذكرتم الحاجة إلى تحسين الكثير من الأمور والخدمات للمحافظة على العقول في الدولة.
    جزء مهم من هذه القضية الا وهو توحيد الفكر لدى جميع القطاعات وعدم التنافس أو التنافر بين الجهات سواء كانت خدمية أو حكومية أو فكرية في الحصول على الميزانيات ومحاولة الظهور أمام ولي الأمر. الخلاصة، يجب أن تكون هناك هيئة عليا تتولى مراجعة ما يقدم للمواطن حتى يبدع في بلده.

    وفقكم الله دكتورنا العزيز

  • م ف
    السبت 13 أكتوبر 2018 - 10:54

    بحق انه موضوع في الصميم حيث نلاحض تنامي ظاهرة هجرة الشباب والكفاءات خصوصا
    لقد وجب ان ندق ناقوس الخطر لما للظاهرة من تأثيرات سلبية على الاجيال وعلى مستقبل البلاد خصوصا لما ينا قش الموضوع من طرف اشخاص لها وزن كبير امثال الدكتور والخبير بن اهنية عبد الله
    وادا كان قد الم بجميع الجوانب المسببة لهدا النوع من الهجرة فانه حسب تقديري الوضع يستدعي تضافر كل الجهود مع اشراك كل الفعاليات حتى نسهم في محاربة الظاهرة من خلال تربية الاجيال على حب الوطن في وقت اصبحت فيه الاولية هي حب الذات والأنانية المطلقة دون مراعاة للواجب الديني والاسري والوطني انها بالتالي مسؤولية الجميع حتى نعيد لهدا الوطن مكانته .
    لا ننسى ان من سبقونا ضحوا بالغالي والنفيس بإمكانات جد بسيطة من اجل مستقبل الاجيال فكفانا أنانية وليتحمل كل مسؤوليته في لم الشمل والتفكير في مستقبل الاجيال والبلاد.
    وفقكم الله والله المستعان

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52

“أش كاين” تغني للأولمبيين

صوت وصورة
الماء يخرج محتجين في أزيلال
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:30

الماء يخرج محتجين في أزيلال