لا سلام بين الأمم والشعوب إلا بسلام الأديان فيما بينها

لا سلام بين الأمم والشعوب إلا بسلام الأديان فيما بينها
الأربعاء 3 أكتوبر 2018 - 22:01

إشكالية عويصة وقع فيها الفكر الإسلامي عبر تاريخه وأدى إلى ظهور بعض المذاهب والأحزاب والفرق الدينية قديما، وظهور التيارات الإسلامية المعاصرة وحركات الإسلام السياسي حديثا؛ فكل مذهب أو كل حزب أو تيار أو فرقة من هذه الفرق تعتبر نفسها ب “الفرقة الناجية” هذه النرجسية والأنانية والغرور والتكبر لأصحاب هذه الفرق أدى بهم إلى ارتكاب أخطاء كبيرة وقاتلة منها استخدام الكَلِم في غير مواضعه، وإسقاط الأحداث- التي عاشها الصحابة الأخيار، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء والرسل عليهم السلام -على ما مرت به تنظيماتم وجماعاتهم، وأحزابهم وطوائفهم، وسير زعمائهم ومشايخهم، وحتى زواجهم وطلاقهم وسجنهم وفقرهم ومشاكلهم وهمومهم ومنجزاتهم وأخطائهم جعلوا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية حجة لهم دائما لا عليهم لإضفاء نوع من القداسة والمصداقية على جميع تصرفاتهم وأفعالهم وأقوالهم وأفهامهم.

ثم يلجؤون فيما بعد إلى انتقاد وشيطنة كل من يخالف منهجهم؛ لهذا ينبغي تحرير نصوص السيرة النبوية من براثن تفسيرات الأحزاب الإسلامية والجماعات الدينية عموما، التي وظّفت الأحداث الدينية لحسابها، دون فهم للسياقات والقرائن أو الأسباب التي نزلت فيها في عهد النبوة إو عهد الرسالة، مما يدفعها إلى عدم تقبل الآخر، وعدم التعاون والتعايش معه، وترى هذا الآخر هو عدو لها وعدو لله ولرسوله، مهما كان مسالما أو محايدا، أو مستقلا عن جميع الأديان (ملحد، أو لا أدري..)، وهذا أدى بالضرورة إلى إلغاء الحوار كما أدى إلى الاختلاف وإلى التبديع والتكفير والقتل.

بل أدى إلى تعطيل فعالية العقل المسلم تماما واستقالته من واقع الحياة؛ لأن الأمر في منطق أصحاب هذه الطوائف والأحزاب والجماعات الدينية المتنطعة منتهٍ، وله أجوبته الحاسمة والجاهزة في كيسهم المذهبي والحزبي، هنا تكمن مشكلة أبناء الجاليات المسلمة في الغرب وعدم انسجامهم مع محيط دولهم التي يعيشون فيها، مما يؤدي بهم في النهاية إلى التقوقع والانكماش من جهة، ثم إلى التطرف والإرتماء في أحضان الإرهاب من جهة أخرى، فإذا لم نقم مجددا بإعادة تشكيل العقل المسلم وإبعاده عن فقه الإنحطاط وربطه مباشرة بالقرآن الكريم وبمقاصده العليا، وبقيمه الإنسانية وبفقه الواقع وعلوم العصر، فإن إشكالية التخلف وطغيان نظرية المؤامرة ورفض الآخر ستظل قائمة، وبالتالي سيظل التطرف والإرهاب والتخلف حي يرزق بين أحضان جدران دولنا وعقول شبابنا ، ولهذا أقولها وأكررها دائما، لا سلام بين الأمم والشعوب والدول إلا بسلام الأديان فيما بينها، فالظروف الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الصعبة التي يمر بها العالم كله وعلى وجه التحديد دول العالم العربي والإسلامي، يأتي موضوع الحوار والتعاون والتعايش بين المذاهب الإسلامية المختلفة والأطياف البشرية المتباينة من مسلمين ومسيحيين ويهود من ضروريات الحياة وسلامتها؛ لكونهم الأغلية المؤمنة في هذا الكون الفسيح من جهة، ومن جهة أخرى فعالمنا اليوم -في الحقيقة- قد أصبح قرية صغيرة لا يستطيع أن يتحمل هذه الكوارث والمجاعات والحروب المدمرة القاتلة، مع العلم أننا نحن أهل الإسلام قد وضع لنا القرآن الكريم قواعد وأسس علمية للتعايش والتعاون معهم، ولم يمانع أبدا في الحوار مع أي انسان كان، ولهذا قام النبي الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وبمجرد ما وطأت قدمه الشريفة أرض المدينة المنورة هاربا ومهاجرا من أرض مكة بكتابة دستور مدني يتماشى عليه الجميع ويحتكم إليه الجميع، ومما جاء فيه: “أنّ المسلمين هم أمّةٌ دون النّاس، وأنّ اليهود كذلك أمّة..” وهذا التّقسيم أدعى لإثبات حقوق كلّ طرف وتأكيد لهويّة ووجود معتنقي كلّ دين؛ بحيث منح اليهود الحقّ في التّحاكم إلى شريعتهم وقوانينهم وخاصّةً إذا لم يكن بين المتحاكمين مسلم، فقد أعطى النّبي عليه الصّلاة والسّلام اليهود في المدينة الحقّ في أن يتحاكموا فيما بينهم بالتّوارة، وكذلك كان يحكم بينهم بشريعة الإسلام إذا جاؤوا يطلبون حكمه، وقد اتّهم اليهود في المدينة المنوّرة بقتل الصّحابي الجليل عبد الله بن سهل رضي الله عنه فلم يعاقبهم النّبي على ذلك لعدم ورود الدّليل والبيّنة على ذلك؛ بل قام بدفع ديّة القتيل من أموال المسلمين، وهذا غايةٌ في الأنصاف والعدالة مع المخالفين، كذلك عدم إجبار اليهود أو النّصارى على اعتناق الإسلام، وقد أكّدت صحيفة المدينة على هذا الأمر تأكيدًا واضحًا لا لبس فيه، وهناك أمثلة في هذا ﻻ تعد وﻻ تحصى، ثم نهج الصحابة من بعده نفس النهج، وهكذا انطلقت مسيرة التعايش الإسلامي المسيحي واليهودي عبر هذه القرون الطويلة.

متألقة تسير من تطبيق عملي لها إلى تطبيق عملي آخر، خلا بعض الفترات الزمنية التي كانت علاقة التعايش فيها ترتكس نحو سلبية مظلمة، أو عصبية بغيضة، أو طائفية مقيتة، يسببها بعض المتطرفين والحمقى من هنا وهناك، أو بعض الجهلة بحقيقة الأديان، أو التأويلات المنحرفة، أو الأهواء والمصالح والأنانيات لبعض رجال الدين، أو تدخل الغرباء الذين يسعون لبث بذور الطائفية، تمهيداً لاستعمار واستغلال بلاد المسلمين والمسيحيين على السواء، قلت : لقد وضع القرآن الكريم وسنةُ النبي محمد صلى الله عليه وسلم قواعدَ التعايش مع غير المسلمين، وكانت هذه القواعد أسساً واضحة جلية تستند على حفظ حق مقدس، ألا وهو حق الكرامة الإنسانية، حيث قال الله تعالى في القرآن الكريم: “ولقد كرمنا بني آدم”، وبيّن أن الناس متساوون من حيث بشريتهم، فقال: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، وجاء في الوثيقة الإسلامية الكبرى لحقوق الإنسان على لسان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأشهر في حجة الوداع، قوله صلى الله عليه وسلم: “إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب” ( رواه أحمد.). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من دعائه بقوله: “اللهم إني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن العباد كلهم إخوة”(رواه أبو داود). ومن هنا كانت الحصانة لكل البشر بغض النظر عن ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم ودياناتهم، وعقائدهم فقد قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى..”.

فالاحترام والتقدير للشخصية الإنسانية حقيقة جلية في نصوص الإسلام، فلقد جاء في القرآن الكريم أن: “من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” ً. كل ذلك دون تفرقة بين لون أو جنس أو ملة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا” (رواه مسلم وأبو داود وأحمد) . هكذا شخصيا أفهم الإسلام وأدعو من خلاله إلى القيم الإنسانية وإلى مكارم الأخلاق وإلى التعايش والتعاون على البر والتقوى مصداقا لقوله تعالى: ” وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان”، وقوله تعالى: ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” .

‫تعليقات الزوار

7
  • Peace
    الأربعاء 3 أكتوبر 2018 - 23:26

    متفقة معك مائة بالمئة يا شيخنا الجليل الاستاذ الصادق العثماني. القران و السيرة النبوية سهل فهمها, لان الاسلام سهل الله فهمه عن طريق نبيه الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم نظريا و عمليا و لكن "من يضلل الله فلن تجد له من هاد" المشكل انهم يضلون كثيرا من الناس و يعطون صورة سيئة عن الاسلام بتحريف المعنى و بتر النصوص و الاعتماد على الاحاديث النبوية الشريفة من خير سياق و لذلك تجدهم لا يحبون من يكثر من قراءة السيرة النبوية لمعرفة السياق او الحدث التي نزلت فيه اية معينة او حديث نبوي و لا يحبون المولد التبوي الشريف لانه يتم التذكير فيه بالسيرة النبوية و لا يحبون الصلاة على النبي و كثير من الامور لا يحبونها التي تؤدي الى معرفة رسول الله , و يقولون ان من يفعلها مبتدع و انها شرك و العياد بالله.

  • عادل ابو العدالة
    الخميس 4 أكتوبر 2018 - 03:32

    ا الدعوة الى أي دين تجلب حساسية و ردة فعل من قبل منتسبي الاديان الاخرى, كل أنسان يستطيع الان أن يصل الى اي دين من الفه الى ياءه بسبب الشبكة العنكبوتية و الانترنيت و لكن دعاة الدين من كل الاديان يحاولوا أن يدسوا الحقد و الكراهية ضد الاديان الاخرى, لا بل حتى دعاة المذاهب الدينية كالتشيع المذهبي الايراني و المؤسسة الوهابية و السلفية القطرية القرضاوية الخ .

  • مولاي الديني الخزرجي
    الخميس 4 أكتوبر 2018 - 12:22

    أساس الصراع هو الدين، والديانات سببت في كثير من المآسي، ألم يخطر ببالك ما سبب فيه الإسلام من حروب ووو (انظر سيرة ابن هشام)، و ما قام به بنو أمية وهم ينعتون (برقة) دينهم وخفتهم، و اتخذوا الدين ذريعة لحرب المسالمين في شمال إفريقيا.
    علينا أن لانطلاق الكلام على إلقاء ودون التمكن فيه، وفي هذا لايتناطح عنزان.

  • عبد الكريم
    الخميس 4 أكتوبر 2018 - 13:55

    أشكر الكاتب والداعية العثماني على مقالاته الجيدة والهادفة والتوعوية, فهو دائما يبرز لنا الجانب المشرق والنوراني والحضاري والإنساني للدين الإسلامي, فذا الوجه تم التعتيم عليه من قبل فقهاء الظلام قرون عدة, كما تمت هيكلته وبرمجته وطمسه أيام تشكيل الدولة الأموية ثم العباسية, حتى وصل لنا دين يعادي البشرية ويعادي الإنسان نفسه, فتحول من إنسان مكرم في القرآن إلى إنسان مستعبد تقطع عنه على أتفه الأسباب, وما حكم الردة في الإسلام إلا من هذه الطامات للفقه الأموي والعباسي والمذهبي, أما إسلام القرآن لا حد للردة فيه, مودتي سيدي وأعزك الله ودمت لنا فخرا في المغرب

  • الحسن لشهاب
    الخميس 4 أكتوبر 2018 - 16:56

    فعلا كلام موضوعي و عقلاني و اما الخاتمة فكانت اروع من المنظق ،لكن ،هل العالم يحكمه منطق العقل و الموضوعية الانسانية؟بالطبع لا، العالم يحكمه كبار رؤوس الاموال ،و الاموال توجد بين يدي كبار الفاسدين الاقتصاديين و السياسيين و العسكريين و المخابراتيين ورجال الدين المتسيسين باسم الدين الغير المؤمنين، عبر تجارة الموت و عبر السياسة بلا مبادء و عبر صناعة الفتن و عبر الفساد الخلقي و الاداري ،و اهدافهمة الرئيسية هي الدفاع و حصانة مصالحهم المشتركة المتجلية في،التوسع و الاستيطان و الاغتناء عبر تجارة الموت و تركيع الحكام العرب و استنزاف خيرات الشعوب بالنسبة للنخب الصهيونية ،اما بالنسبة للنخب الاسلاموية فهي تكتفي بالتوريث السياسي و الديني و الرفاهية بين رنين الكؤوس و همسات الحسنوات العاهرات ، و العلماء الاجتماعيين و المثقفين يعرفون جيدا انه لا مكانة وسطى بين هده الاهداف و بين حقوق و كرامة الانسان ,,,

  • الرياحي
    الخميس 4 أكتوبر 2018 - 20:47

    رائع هذا الأستاذ المتنور اللذي دفع التسامح إلى حد بعيد كما ألمس فيه الصدق و التواضع وحسن الإنصات و النية بينه وين فقهاء البلاطات برزخ .هذا الفقيه يشرف الإسلام يفتخر به المسلم والملحد

  • أستاذ الإجتماعيات
    الجمعة 5 أكتوبر 2018 - 11:43

    لا سلام بين الأمم والشعوب إلا بإبعاد الدين و الإيديولوجيا عن العلاقات الدولية
    و عن السياسات المرتبطة بكرامة المواطنين و معيشهم اليومي.
    لا سلام بين الأمم والشعوب إلا بالحوار العقلاني الصريح و البناء و تجنب الخطاب العاطفي بإسم الدين و الإيديولوجيا.
    لا سلام في العالم، سوى بالعلمانية و الديمقراطية و العدل و الحرية.
    الدين مسألة فردية خالصة، يجب أن يبقى بعيدا عن تشريع القوانين و عن مشاريع التنمية و عن العلاقات بين الأفراد داخل نفس البلد، و عن علاقات بين الدول و المجتمعات.

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 4

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة