مدرســـــــة المواطنـــــة..

مدرســـــــة المواطنـــــة..
الأربعاء 12 شتنبر 2018 - 14:32

انطلق الموسم الدراسي الجديد قبل أيــام في سياقات وطنية متعددة الزوايا، في طليعتها احتجاجات الأساتذة المتعاقدين سعيا وراء كسب رهان الترسيم، والجدل الذي أثاره كل من مشروع القانون المتعلق بالخدمة العسكرية، ومشروع القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي.

ودون الخوض في تفاصيل هذه السياقات وغيرها، لا مناص من التوقف عند هذا الموسم الدراسي الجديد الذي انطلق تحت شعار “مدرسة المواطنة”، وهو شعار قوي يضع مفهوم “المواطنة” في الواجهة في ظل التراجع المثير للقلق لمنسوب المواطنة وانحطاط منظومة القيم والأخلاق واتساع بؤر العنف والتوتر والتمرد والتذمر، خاصة وسط الشباب، وهو تراجع يسائل بقوة الدولة ابتداء كما يسائل مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تراجعت أدوارها ووظائفها التربوية والاجتماعية، ومن ضمنها “المدرسة العمومية” التي تقف اليوم بين كسب رهان المواطنة والتربية على القيم وهاجس الانحطاط القيمي الذي أضحى ينخر جسد المجتمع ولم تسلم منه حتى المدرسة التي يفترض أن تساهم في صنع القيم بدل الاكتواء من نيران انحطاطها.

وعليه، وبعيدا كل البعد عن الشعارات الرنانة، لا بد من الإقرار بأن شعار “مدرسة المواطنة” هو شعار أقرب إلى الحلم من الواقع وإلى الخيال من الحقيقة. لكن بالإمكان ترجمة الحلم إلى الواقع وتنزيل الخيال إلى مستوى الحقيقة من خلال إسهام الجميع في خلق مدرسة عمومية جذابة ببنياتها وفضاءاتها الداخلية ومنظرها الخارجي اللائق ومغرية بما تقدمه من عروض تربوية وتعليمية تفتح أفق الخلق والإبداع والابتكار والتميز..مدرسة عمومية عصرية تقطع مع كل الظواهر المشينة، وفي طليعتها العنف المدرسي الذي وصل مداه في السنوات الأخيرة بشكل يكرس فقدان الثقة في هذه المدرسة العمومية يوما بعد يوم، ويجعلها حلبة صراع خفي ومعلن بين المدرس (ة) والمتعلم (ة)، في إطار علاقة عداء تحضر فيها عناوين الكره والنفور على حساب قيم المحبة والاحترام والتقدير المتبادل..مدرسة عمومية متجددة تتوفر على شروط الحيـــاة من حجرات لائقة تحفز على التعلم، وفضاءات خضراء جذابة وبنيات مغرية قادرة على صناعة متعلم(ة) متعدد القدرات والمواهب في مجالات الرياضة والمسرح والسينما والفن التشكيلي والموسيقى والأدب والكتابة والتواصل والخلق والإبداع، في إطار أنشطة موازية تتناغم مع العرض التعليمي التعلمي..مدرسة عمومية تعيد بناء صرح كرامة المدرس(ة) وتمكنه من كل الظروف المادية والمعنوية باعتباره قناة لا محيد عنها في أي عملية إصلاحية..

مدرسة عمومية قادرة على تحفيز أطرها وكفاءاتها لوقف النزيف المقلق الناتج عن تمدد دائرة الإقبــال على التقاعد النسبي، خاصة وسط المدرسات والمدرسين “القدامى”، وتوفير كافة شروط الكرامة والاستقرار للأساتذة الموظفين بموجب عقود بشكل يجعلهم يمارسون مهامهم بنوع من الثقة والطمأنينة، ما يشكل لديهم محفزا للجدية ودافعـا للخلق والتميز والإبداع..مدرسة عمومية تضع المتعلم(ة) في صلب أهداف ومقاصد وغايات الفعل التعليمي التعلمي من خلال مناهج متطورة ومقررات دراسية محفزة ومتفتحة على تكنولوجيا الإعلام والاتصال، تقطع مع “الكم” المفضي إلى الرتابة والنفور..مدرسة عمومية تنزع الجلباب الضيق للتقويم، وتتفتح على أشكال تقويمية عصرية تسائل المعارف والقدرات والمناهج والمهارات والإبداع …إلخ، ما قد يقفل الباب بشكل لا رجعة فيه على معضلة الغـــش المدرسي الذي أضحى ليس فقط يقضي على مبدأ المنافسة الشريفة وفرص التكافؤ بين المتعلمات والمتعلمين، ويضرب العملية التعليمية التعلمية ككل في الصميــــم؛ بل ويصنـــع جيلا من الغشاشين والمتهاونين والمتواكلين الذين يتصورون “الغش” حقا مشروعا لا خجل في ممارسته بل والدفـــاع عنه ولو كلف ذلك ممارسة العنف في حق المدرس(ة) المراقب(ة)، خاصة في إطار الامتحانات الإشهادية..

مدرسة متفتحة وصارمة في الآن نفــسه قادرة على فرض الانضباط وضمان احترام قانونها الأساسي، وهذا لن يتأتى إلا بفرض البذلة الموحدة لتحقيق المساواة أمام المتعلمات والمتعلمين، للحد من ارتداء بعض الملابس غير التربوية، كالسراويل الممزقة والقبعات والنظارات الشمسية، وقطع الطريق أمام بعض الغرباء الذين يلجون إلى الحرم المدرسي من أجل العبث أو لترويج الممنوعات، والحرص على فرض احترام مواقيت الدخول والخروج وكذا التعامل الصارم مع كل السلوكات والتصرفات غير التربوية المخلة بمقتضيات القانون الأساسي، من قبيل استعمال الهواتف النقالة والسماعات والحلاقات المثيرة للانتبـــاه والتدخين والسلوكات المخلة بالحياء والاحترام والعنف والغش في فروض المراقبة المستمرة والامتحانات الإشهادية وغيرها..مدرسة عمومية بمواصفات معمارية وفنية عصرية، قادرة على الجذب والتأثير والتفاعل المتبادل مع المحيط..بشكل يجعلها تلحق بركب المدرسة الخصوصية التي قطعت أشواطا على مستوى البنيات والوسائل والعروض التربوية والتعليمية… مدرسة عمومية تشكل مجتمعا مصغرا يسود فيه القانون على الجميع ويفرض الجزاءات المناسبة على المخالفين..مدرسة عمومية بهذه المواصفات لن تكون إلا “مدرسة المواطنة” القادرة على صناعة مواطن الغد..مواطن يحترم القانون والمؤسسات ويقوم بما عليه من حقوق وواجبات ويتشبع بما يكفي من قيم المحبة والاحترام والتقدير والتفاني في حب وخدمة الوطن في زمن تراجعت فيه مؤشرات “المواطنة” إلى مستويات مثيرة للقلق والسؤال..

غير هذا سيظل شعار”مدرسة المواطنة ” كمن يريد إخفاء شمس الحقيقة المرة بالغربال..لكن قبل هذا وذاك، فملعب “التربية على المواطنة” يتقاسمه لاعبون كثر، وكسب الرهـــان يمر حتما من التشارك والتعاون وتقاسم الأدوار والمسؤوليات، وحصر “المواطنة” في رقعة “المدرسة العمومية” كمن يغرد خارج الســرب…

*أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي (المحمدية)، باحث في القانون وقضايا التربية والتكوين.

[email protected]

‫تعليقات الزوار

5
  • المكناسي
    الأربعاء 12 شتنبر 2018 - 15:07

    موضوع جيد يا استاذ…من ينقذ المدرسة ..وعندما نقول المدرسة فالمقصود هم اولادنا الذين هم مستقبل الامة … والله لو زرت مدارس في المدن وبالقرب من المديرية الإقليمية لقلت. كما قال ملك البلاد اين الثروة…. اقسام قديمة ومتسخة … الطاولات مكسرة الفضاء رهيب…..اين اموال المغاربة ….لا اريد ان اكون متشائما ولكن الغالب الله… لا حول ولا قوة الا بالله

  • حسسسسسسسان
    الأربعاء 12 شتنبر 2018 - 15:50

    لن يصلح حال المدرسة ومختلف القطاعات الاخرى مادامت قيم الانانية و"أنا ومن بعدي الطوفان" والفساد… مستشرية، ومادام الضمير نائما لا يقوم بوخز صاحبه. تأملوا كيف مثلا يسمح أستاذ بتسجيل اطفاله في مدرسة خصوصية ويوفر لهم أسباب النجاح من دعم وأنشطة… ثم ياتي إلى المدرسة العمومية ويتعامل مع تلامذته بشكل لا يليق فيعطي اقل ما يمكن ويوفر مجهوده للدروس الخصوصية التي يعطيها…ألا يفكر في ان هؤلاء الاطفال التي فوضه المجتمع لتكوينهم لهم أيضا حقوق وآمال للتعلم والارتقاء وضمان مستقبلهم، أم ينظر إليهم فقط كأرقام وأشباح ولا يعني له فشلهم أو انقطاعهم شيئا. وقس على ذلك كمثل الطبيب الذي يأتيه مريض ثم يبدأ في سمسرته والإكثار من الفحوصات أو إجراء عملية جراحية غير ضرورية، فقط من أجل الحصول على المال. ألا يفكر قليلا هذا الطبيب ويتخيل أباه أو ولده أو زوجته في حالة المريض "المجهول". وقس على ذلك في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية. عندما يغيب الضمير الجمعي والإحساس بالمواطنة وبأن الوطن وطننا وأن الناس إخوة لنا في الدين والوطن والإنسانية، فلن تننتظر إلا الامراض الاجتماعية وانهيار الخدمات…

  • شاري الصداع
    الخميس 13 شتنبر 2018 - 01:07

    ما قريتش الموضوع ، المهم من بعد و تعرف شنا هو المواطنة .. على كلك حال ،، حسابنا طويل مع لخاوانة ،، شويا و نتفرغ للحباب

  • زايد
    الخميس 13 شتنبر 2018 - 03:03

    اقنعونا حتى نكون لكم اهل الثناء

    نعلم أن دولة الرئيس شخص ذكي جدا وانه قد التقط حديث جلالة الملك في كتاب التكليف السامي وفي اكثر من محفل بوجوب الاعتماد على النفس لكن مازال تاسيسنا على حديث جلالة الملك متواضع ولم نضع الرسائل الملكية قيد التنفيذ ولم نرى برنامجا وطنيا مقنعا يستند لخطاب سيدالبلاد في العمل بقوة والمضي نحو المستقبل بكل عزم، ومع الأسف كل الحكومات تلوح لنا بالمناداه بصاحب الدين لتطالبنا بسداد دينه وكانهم استشارونا في مشاريعهم المتعثرة عندما استدانوا واستلفوا وعاث بعضهم في الحرث والنسل .

  • الفيلسوف
    الجمعة 14 شتنبر 2018 - 15:45

    المدرسة ماتت بسبب:
    * 1 موضة البرامج الجديد والقطيعة مع التكاملية والاستمرارية بين كل وزير ووزير.
    * 2 جشع الأساتذة ونهمهم في ظل تخلف تنظيمهم الأسري المُستنزِف.
    * 3 تخلي الآباء عن متابعة الشأن المدرسي من خلال طــــــــــــــــــــــــــــــــــلاق جمعيات الآباء والإستيلاء عليها من طرف سماسرة البناء والمقاولين مع بعض المُتحزبين.
    *4 تكفير جيل التواصل الاجتماعي وعدم التعامل مع هذا التطور التقني لتَطوير التلاميذ والطلبة بدل الاستهزاء بهم.
    *5 …

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 2

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية