ديهيا لويز: رحيل أديبة أمازيغية

ديهيا لويز: رحيل أديبة أمازيغية
الأربعاء 18 يوليوز 2018 - 11:07

رأيت كتابها في المعرض الدولي للكتاب، ولم أنس غلافه ولا اسم صاحبته، كانت نظراتها حزينة ولم أفهم من أين يأتي حزن عميق ليمنح كل هذا البهاء لكاتبة شابة، لم أفهم حزن وجه صبوح مفعم بالسلام ومع ذلك كانت تعرف أنها سترحل عما قريب، وأنا لم أكن أعرف أن أقلاما بهية يختارها الموت بعناية بين كل الآخرين وهي في مقتبل العمر، 32 سنة.

تألق الدمع في عيني ولم أترك ل المجال لينهمر، شعوري بالكاتبة، بتوقها إلى أدب يخفق بالصدق والحب، بوطن متصالح مع نفسه، وطن يقسم بالحب كزهرة توليب، هذه هي لويزة أوزلاق، أو ديهيا لويز، زهرة التوليب الأمازيغية المفعمة بعطر بجاية العميقة للأبد.

كتبت بالعربية والأمازيغية، في ازدواجية لغوية يعيشها كتاب إيمازيغن في كل تامازغا، ازدواجية غير مؤلمة لغويا، لكنها تشعر بتلك النار الفريدة التي لا تنطفئ إلا بالمزيد من شحذ أقلام لغة ديهيا الفريدة في تحملها لضروب المعاناة والمشاق لتعبر عن نفسها بنفسها، وبحروفها التواقة إلى الحياة أكثر من أي وقت مضى، هكذا هو توق ديهيا لويز، خيبات متكررة وأمراض مستعصية، هكذا وصفت وطنها الذي بتناقضاته الكثيرة خلق في وجودها سؤال الوجود، معضلة الاستمرار بلا حياة فاقت قدرة تحمل الفلاسفة والأدباء المنتحرين، لكن ديهيا لويز تقذف بنفسها أمام تلك المعضلة العويصة، تفككها بتأملاتها العقلية والنفسية، تشرحها على ورق أبيض وبقلم يخط وجعا إنسانيا بشرارات أرجوانية، ديهيا لا ترتكن بعيدا عن مواجهة الموت بسبب القمع أو المرض، تقول: “سأقذف بنفسي أمامك غير مقهورة أيها الموت ولن أستسلم”، هكذا تفتقت الكتابة التي اعتبرتها ديهيا متنفسها الجديد أمام أسئلة صعبة ومقلقة كما جاء في روايتها “لماذا نتمسك بكل هذا الخراب الذي يستوطن بداخلنا أعوامًا طويلة ويتراكم مع كل يوم يمضي؟”.

هاجس الكتابة، هاجس الذات الأنثوية في مجتمع تملؤه تقاليد بائدة، قيم أنانية مقدسة بسلطة يختلط فيها قمع النظام بقمع الأعراف، تنتقد ديهيا لويز بقسوة عارية من الرحمة اختلالات شتى، هي أكثر سوادا من أن نقدر على الاستمرار بالتبجح بأفضليتنا الأخلاقية على الأمم، ولعل روايتها “سأقذف نفسي أمامك” هي أيقونتها الإبداعية التي لا تقل عن قوة كتابيها الآخرين، هذه الرواية تركت بصمتها الفريدة بسبب ذاك الصوت النوعي للكاتبة الذي عرف كيف يصرخ أدبيا صرخة الربيع الأمازيغي الأسود، تحكي لويزة أوراق وطن في أحلك لحظاته، تقول: “كان ربيع 2001، فصل الحب والورد والجمال، الفصل الذي تنتعش فيه القلوب بعد شتاء الجفاء.. لكن هذه المرة بالتحديد كان مختلفاً، لم يحمل في ثناياه سوى الألم، الدم الذي سال كثيراً من دون أن نفهم تحديداً السبب من ذلك، ولا ما كان وراءه”.

تحكي الرواية ما وقع في منطقة القبائل في أبريل 2001، هو بالنسبة لبطلة الرواية لحظة من اللحظات التاريخية التي هي امتداد لربيع 1980، إنها حكاية الهوية الأمازيغية التي قرر أن يقتفي قدرها، بنضال عنيد، شباب يقف بوجه التهميش السياسي والاقتصادي والهوياتي، ويقترف النظام جريمته السوداء بمواجهة الربيع الأمازيغي بالرصاص الذي صدم الروائية، فأرادت من خلال قوتها الأدبية أن تفهم تلك اللحظة التي أدانتها بشدة، لحظة القمع الدموي، ولحظة صناعة التاريخ للربيع الأمازيغي الذي تؤكد أنه هو ربيع كل الجزائر، وأن هناك غضبا مكبوتا سيؤدي إلى انفجارات، وأن فقط قرماح ماسينسا هو الذي يؤجج حممه، في إشارة إلى أن كل تغيير شعبي تكون الأمازيغية هي محركه الأساسي.

تتساءل ديهيا لويز عن سبب هذا الخراب البائد في الواقع السوسيو-ثقافي، أهو بفعل الخوف من القمع النظامي، أهو بفعل الخوف الذاتي بعد عقود من الإهانات، فتقول في فقرات قوية وسلسة، واضحة وغامضة بأسرار تطرحها الكاتبة على شكل أسئلة، وفقرات صامتة مفعمة بسكون صاخب: “هذه هي الهفوة التي نرتكبها، نحاول التستر بالصمت الجبان، ونقول إنّ الأمر لا يعنينا.. لذلك ما زلنا نتخبّط في العالم الثالث.. ما زلنا نرى الظلم يتغذّى ويتعشّى بيننا ولا نحرك ساكناً.. ما زلنا نرى الجثث تسقط أمامنا ونمرّ وكأنّ شيئا لم يكن، وكأنّ هذه الدماء ليست دماء جزائرية تسيل من دون أن نعرف السبب، ولا من وراء كل هذا الخراب”.

إنها أول رواية باللغة العربية تؤرخ لثورة الربيع الأمازيغي بالجزائر في تناسق روحي ولغوي منصهر أحيانا وساكن أحيانا، وفي كلتا الحالتين هي أعماق أمازيغية تفاجئنا بقدرتها على الخلق من جديد، على الإبهار والاشتعال بشعلة الحياة المتوهجة حين ظنناها انطفأت إلى الأبد.

هذه هي الوثبة الإبداعية التي حققتها الروائية الأمازيغية ديهيا لويز في المشهد الأدبي الجزائري وجعلتها في مصاف الرواد رغم سنها الصغير، وثبتُها القابضة بمعصم الحياة بالرغم من قسوة المرض الذي ألم بها، وقسوة الوطن الذي قتل فيها التفاؤل.

بالإضافة إلى كل ما تطرحه هذه الرواية من قيمة أدبية وتاريخية، تطرح أيضا موضوعا قلما تتم الإشارة إليه، أن الأدب باللغة العربية يحتوي على نماذج خدمت الثقافة والنضال الأمازيغي، ولعل كتابات الروائية التي غادرتنا في 30 يونيو2017 لأصدق دليل على أننا نعيش ازدواجية لغوية وليس يعني ذلك بالضرورة ازدواجية هوياتية.

فوداعا أيتها الأديبة، ارقدي بسلام يا زهرة التوليب الأمازيغية.

‫تعليقات الزوار

3
  • هشام
    الخميس 19 يوليوز 2018 - 22:08

    مقال رائع وفيه كلمات تعبر عن الحالة التي وصل اليها المغاربيين باكمله وليس الجزائر فقط.حقا نحن دائما نغطي عن الحقيقة والكل خائف من قول ذلك.حقا انها حالة وجودية تفوق وجودية سارتر او كييرغارد.

  • rachid
    الجمعة 20 يوليوز 2018 - 11:56

    ..عند الموت فقط سوف تعلم هويتك الحقيقية وستخلع هويتك المزيفة بل ستراها تتبدد أمامك كالسراب….

  • صالح
    الأحد 22 يوليوز 2018 - 03:37

    ا لسلام عليكم اختي ورحمة الله وبراكته
    ازول
    اختي الهوية والقهر الى غير دالك باسم الاخرين لا يجدي نفعا
    من لا امل على هده الارض فليجعل امله كله في الله يطمئن
    التاريخ ياخد مجراه لوحده
    يايها الدين امنوا عليكم بانفسكم لايضركم من ضل ادا اهتديتم
    ياختي خد هوية الايمان واترك غير دالكك

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة