بوصوف يستحضر مسار شخصيات مغربية تاريخية .. الشريف الإدريسي‎

من بين الشخصيات المغربية التي خلقت إشعاعا عالميا وساهمت في تغيير مفاهيم علمية كبيرة وتعابير معرفية ومعادلات سياسية، نجد الرحالة والجغرافي المغربي أبا عبد الله بن محمد الإدريسي السبتي الصقلي، المعروف اختصارا بالشريف الإدريسي وعلاقته بملك صقلية روجار الثاني، والذي دعاه إلى مملكة صقلية وخصّه بمكانة علمية مرموقة ووجاهة اجتماعية كبيرة، كما كلفه بالإشراف على رأس مجموعة من الخبراء والجغرافيين والمؤرخين لوضع خريطة للعالم بمواصفات علمية جديدة، تستفيد من كل تراكمات الرحالة القدماء وأيضا الاستفادة من تجارب التجار والبحارة والرحالة الجُدُد للحصول على خريطة بموصفات علمية جديدة واضعا بذلك أسس علم الجغرافيا بطريقة علمية جديدة..

وقد كانت ثمرة كل هذا الجهد العلمي والمعرفي للجغرافي المغربي الشريف الإدريسي، وطوال 15 سنة من العمل والتحري والتدقيق، في وضع خريطة العالم منقوشة على لوح فضي كبير وكتاب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”؛ وهو كتاب تفصلي للخريطة المنقوشة على اللوح الفضي الذي ضاع في ظروف مجهولة..

بعدها سيرحل الشريف الإدريسي عن جزيرة صقلية إلى تونس (إفريقية) بعد إحداث مجزرة ضد المسلمين سنة 1161، حيث سيموت حوالي سنة 1165..

فهل نكون بهذه السطور مثلا، قد قدمنا جديدا في سيرة حياة أعظم جغرافي في عصره؟

نعتقد أن قاسم الانتماء الوطني الذي يجمعنا جميعا مع الشريف الإدريسي، وأيضا أدبيات البحث الموضوعي يدفعنا إلى البحث عن أكثر جوانب الحقيقة التاريخية غموضا وأكثرها تغييبا في حياة رجل غير معالم قراءة جغرافية العالم، أو على الأقل إثارة تساؤلات من شأنها أن تُحفز للبحث عن الحقيقة التاريخية المغيبة في أكثر من جانب في حياة الشريف الإدريسي ….

فكيف لملك صقلية والجنوب الإيطالي روجار الثاني أن يدعو الشريف الإدريسي، ولم يكن برحالة شهير أو صاحب إنجاز أو إصدار تاريخي أو علمي بارز؟

وإذا علمنا أن مدينة باليرمو، عاصمة صقلية، كانت لها مكانة علمية بارزة في كل أوروبا، وكان بلاط الملك روجار الثاني يضُج بمفكرين وشعراء وفنانين ومؤرخين وغيرهم، فما هي القيمة المضافة لوجود الشريف الإدريسي؟ لماذا خصه بكل تلك المكانة العلمية والاجتماعية؟ ومن كان بحاجة أكثر إلى الآخر، هل هو ملك صقلية النورماني / المسيحي روجار الثاني أم الشريف الإدريسي الصقلي الأندلسي / المسلم؟ وهل من الضروري أن نُذعن نحن إلى قراءات تاريخية لمسار أعظم جغرافي ورحالة في عصره، وهي عموما قراءات تعتريها حالات شرود لمراحل تاريخية مهمة في حياة الشريف الإدريسي؟ وهل يجب علينا التسليم والتصديق، بأن شغف الملك روجار الثاني للعلوم والمعرفة والجغرافيا فقط، هو سبب دعوته للشريف الإدريسي؟

لا نعتقد أننا بهذا النحو سنجر النقاش إلى منطقة محظورة أو نشكك في كل المعلومات المتوفرة والمتوارثة منذ القرن الـ12؛ بل إننا نسعى فقط إلى إعطاء المعلومة حقها وسياقها التاريخي، وفي هذا خدمة للتاريخ أولا وللشريف الإدريسي ثانيا ورفع كل اللبس عن عالم مسلم خدم ملك مسيحي…

لكن يمكننا محاولة فك شفرة هذه المعادلة إما بطرح أسئلة جديدة أو بطرح معلومات وأخبار هنا وهناك تتعلق أولا، بحياة الملك روجار الثاني ومُلكه وصراعه سواء مع مؤسسة البابا حيث عرفت حقبته صراع ثلاثة بابوات في وقت واحد على البابوية، أو صراعه مع ملوك ودوقات إيطاليين آخرين، ورغبته في توحيد جنوب إيطاليا وتزكية البابا له كملك على كل إيطاليا وممثلا للكاثوليك في جزيرة صقلية المسلمة.

كل هذا يتطلب حنكة ودهاء سياسي كبير دفعه إلى أن يجعل من جزيرة صقلية منارة حضارية والتقاء الديانات والشعوب واللغات، فهي جزيرة أكثر من نصف سكانها مسلمين (بحكم تواجد دام أكثر من قرنين ونصف) وأقليات يهودية وبيزنطيون أورثودوكس في حين كان مع جنوده قلة كاثوليكية فقط، دهاء الملك روجار الثاني والذي كان يتكلم بطلاقة العربية واللاتينية واليونانية جعله يعطي للعديد من القادة المسلمين حرية تسيير أراضيهم وشؤونهم وقادة في الجيش، كما اتخذ من البيزنطيين مستشارين وقادة في جيوشه؛ مما جعل من صقلية مستقرة وآمنة..

بالمقابل، فإن الملك روجار كانت له أطماع في جنوب المتوسط، وهكذا بعد إبرامه اتفاقيات تجارية مع الدولة الفاطمية في مصر فقد احتل تونس وجزءا من ليبيا والجزائر، كما احتل اليونان ودخل في مناوشات مع الدولة البيزنطية في البلقان.. وهناك من المؤرخين من كشف عن نية الملك روجار الثاني في بناء إمبراطورية نورمانية على أنقاض الإمبراطورية الرومانية، بما في ذلك جزء من الأندلس..

هناك معلومة مهمة جدا وهي أن زوجة الملك روجار الثاني الأولى هي إلفيرا وهي ابنة لكل ملك كاستون بإسبانيا ألفونسو السابع وإيزبيلا أو الأميرة زايدة التي تنصرت بعد ارتباطها بالملك ألفونصو بعد قتله لزوجها المامون؛ وهو أمير قرطبة بن محمد المعتمد أمير إشبيلية…. فالملكة إلفيرا توفيت عن سن 35، وقد حزن الملك روجار الثاني كثيرا ولم يخرج من بيته لمدة طويلة.

ومن جهة ثانية، فإن الأسئلة يجب أن تتعلق كذلك بالشريف الإدريسي، وخاصة من حيث نسبه إلى “بن حمود” وهم أشراف أدارسة كونوا “دولة الحمودية” في الأندلس وجبل طارق وسبتة وطنجة لأكثر من 40 سنة بعد سقوط دولة الأدارسة في المغرب، فبعد صراعات كبيرة مع ملوك الطوائف وكذا ما عُرف بالفتنة الكبرى بالأندلس سيرجع بعض منهم إلى سبتة وطنجة وآخرون إلى جزيرة صقلية… فمحمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس بن يحيى بن على بن محمود ولد في سبتة سنة 1099/1100، ودرس في قرطبة، ورحل إلى بلدان عديدة؛ منها بريطانيا وآسيا الصغرى والقسطنطينية واليونان وغيرها من بلدان المتوسط والبلقان …

لكن نسبه إلى “بن حمود” كان مهما؛ فقد كان محمد أبو القاسم الحمودي، وهو حاكم منطقة في جزيرة صقلية وأحد كبار رجال الدولة في مملكة روجار الثاني، قد قدم الشريف الإدريسي للملك روجار الثاني قبل سنة 1138، عندما كان راجعا من المشرق ونزل بصقلية، فخاطبه الملك روجار الثاني: “أنت من بيت الخلافة، ومتى كنت بين المسلمين عمل ملوكهم على قتلك، ومتى كنت عندي أمنت على نفسك….”، كما جاء في كتاب “الوافي بالوفيات” لخليل بن أيبك الصفدي.

يتضح، إذن، أن هناك خيوطا مشتركة ومصالح متقاسمة، وأن دعوته سنة 1138 إلى صقلية لم تكن لضرورة علمية خالصة، بل كانت هناك مصالح سياسية أيضا؛ فالملك روجار الثاني كان يحتاج إلى ترسيخ استقرار سياسي ومجتمعي من خلال وجود شخص الشريف الإدريسي إلى جانب رجال دولته، خاصة بوجود المسلمين وهم الأكثر عددا في صقلية طيلة قرنين ونصف، وكل ما يحمله هذا الوجود من تراكم لإضافات حضارية وإنسانية وثقافية وعمرانية واقتصادية من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن الشريف الإدريسي ينحدر من أسرة فقدت السلطة في الأندلس، وهي نفس منطقة عائلة زوجته إيلفيرا الإسبانية ويعرف تاريخها وجغرافيتها وأدق تضاريسها..

بالإضافة إلى أنه جال في الشرق وصولا إلى أسيا الصغرى، ودرس في قرطبة؛ وهو ما يجعل منه الشخص المناسب للملك روجار الثاني، سواء على المستوى السياسي أو المجتمعي أو العلمي، بتكليفه بإنجاز مشروع علمي كبير؛ وهو ما يعرف بـ”كتاب روجار”، أي خريطة العالم مصحوبة بكتاب “نزهة المشتاق”.

وبموت الملك روجار الثاني سنة 1154، ستتراجع أسهم الشريف الإدريسي داخل بلاط النورمان، وسيهرب بعد أحداث مذبحة المسلمين بجزيرة صقلية سنة 1161، حيث تضاربت أنباء عن وفاته في سنة 1165 بين سبتة وتونس…

نحن لا نجزم بأننا نقول الحقيقة؛ لكننا نضع أيْدينا على خيوط ربما تساعدنا جميعا على إعادة حياكة سيرة أعظم جغرافي وأول من أسس لعلم الجغرافيا.. وهي سيرة اختلف في تناولها أكثر من مؤرخ ومستشرق وباحث..

لكل هذا وبعد مرور قرون عديدة، فإن الشريف الإدريسي لا يزال ينتظر منا الكثير من الجهد، لكشف حقائق عن تاريخه العلمي ونبوغه الفكري وسبقه الجغرافي، وإن الملك روجار الثاني كان بحاجة إلى شخص مثله وقامة علمية تتوفر على رمزية دينية ونسب شريف يسهل له الطريق سواء نحو الشرق (القسطنطينية) أو الغرب (الأندلس) أو الجنوب (شمال إفريقيا).