رحلات الحج المغربية إلى المشرق .. عتبة العلم وعباءة العبادة

رحلات الحج المغربية إلى المشرق .. عتبة العلم وعباءة العبادة
الأحد 27 غشت 2017 - 01:00

إن القارئ لأية رحلة حجـازية علمية، وخاصة الفهرسية منها، يتأكد من طـواف الرحالة المغـاربة على مراكز العلم بالمشرق لملاقـاة كبار العلماء والأدباء والمشـايخ طلـبا لأعالي العلوم والمعارف، منطلقين من القولـة التي كانت سائدة، والتي تؤكد على إيجـابيات أخذ العلوم من أفـواه الرجال، وتجنب الاكتفاء بمطالعة الكتب والمؤلفات، ويؤكـد على هذا قول ابن خلدون: “إن للرحلة في طلب العلم لاكتساب الفوائد ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم، فالرحلة لا بد منها في طلب العلم، والفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال”.1

ولعل الذي ساعد على تنمية هذا الاهتمام وعلى هذه الرغبة في الرحلة عند المغـاربة هو الموقع الجغرافـي للمغرب، ببعده عن الشرق والحجاز من جهة، وإطلاله على القـارة الأوروبية من جهة ثانية. ولهذا، انتظمت رحلات المغاربـة للأقطار المختلفة، شرقا وغربا، بـلادا إسلامية وغير إسلامية، وإن كنا وجدنا أن الحجاز يستقطب أكثر المغاربة ويستهويهم، ويجـذبهم نحوه، بل هو منتهى سفرهـم، والمدينة المنـورة دار للعلوم والمعارف.

من هذا المنطلق ، يمكننا القول: إن هذا النوع من الرحلات نابع بالأساس – بكل عناصره الدينية والعلمية- من شعور المغاربـة بالبعد المكاني عن المناطق المقدسة. ومن ثمة لم يكتف معظم الحجاج المغـاربة بقضاء مناسك الحج مرة واحدة، بل بمجرد الرجوع إلى بلدهم “يسرعون إلى العودة من جديد … ولشدة التعلق بالحجاز..كان ركب الحجيج المغربي يطيل مقامه هناك، فيستقر لفتـرة طويلة بمكة أو المدينة أو بهما معا، حتى يشبع رغبتـه ويروي ظمـأه”2.

إن يوم خروج الحاج المغربي، حينما يكون متوجها إلى الحجاز، يكون يوما موعودا ومشهودا، قـل من يبقى بالمدينة “إلا خرج، ودب ودرج، الرجال والولدان، والأحرار والعبدان، فما ترى أعجب من ذلك اليوم ولا أحسن منه منظرا أو مخبـرا، يروق البصر ويميل بالفكر عادة جميلة استندوا إليها وطبيعة جبلوا عليها”3.

وبالرغم من ذلك، لا يمكننا أن نسلم بأحادية الدافع إلى الرحلـة، وتجاهل الدوافع الأخرى التي كانت نتيجـة لها، وعلى رأسها الدافع العلمي، والمجـاهد من أجله، والراحل في سبيله عن طريق الاتصال بكبار العلماء والأدباء والمفكرين، لتحقيق الروايات وأخـذ الأسانيد والإجـازات، والإطلاع على المؤلفات، ومناقشة المسائـل العلمية والنوازل الأدبية، حتى ينتهز الراحل فرصة هذا السفر الطويل الذي يبتدئ من المغرب مرورا بمصر وانتهاء بالحرمـين الشريفين.

وكانت هذه المناطق تمثل الخط الجغرافي الذي يسيـر فيه ركب الحجيج المغربي، من أيام بنـي مرين، بحيث يقف الراحل بكل عواصم العلم التي يمـر بها في طريقه، ويصفها ويذكر مساجدها ومآثرها، وعلماءها وأدباءها.

لقد كان الحج إذن يسمح بكثير من الاتصالات الفكرية بين العلماء؛ فالمسافر كان يتوقف بطرابلس والإسكندرية، وأحيانا كان يصعد حتى اليمن، كما كان العالم المغـربي يأخذ ويعطي بعض الدروس، فكانت هذه الاتصالات – غالـبا- تتوج بإجازات في مختلف العلوم والفنون والآداب، يتـبادلها العلماء والأدباء فيما بينهم.

ويعتبر العلامة محمد ابن أبي بكر الدلائـي وأبو سالم العيـاشي وأحمد المقـري من أوائل الرحالين إلى الحجاز، بحيث تعرفوا على الحياة العلمية والفكرية بالمشرق، واتصلوا بعلمائها وفقهائها، ودرسوا معهم مختلف القضايا المعرفية، كما درسوا وصنفوا وأضاؤوا بفكرهم وعلمهم طلاب العلم هناك.

بل والأكثر من هذا، منهم من جادت قريحتـه بتآليف، مثل أبي سالم العيـاشي، الذي ألف رحلته المسماة: “ماء الموائد”، كذلك الأمر بالنسبة إلى محمد الحاج الدلائي، الذي ألف كتابين، هما: “فتح المتعال في مدح النعال” و”أزهار الكمامة في أخبار العمامة”.

كما كانت هذه الرحلات المغربية إلى الديـار المقدسة من الأسباب الأساسية للإبداع الشعري، وتفتق قرائـح الشعراء، كما وقع للشاعر محمد المرابط، وهو يتهيأ للخروج في ركب للحج، فانشرح صـدره ، وازداد غبطة وسرورا، وتراءت له معالم طيـبة، فأنشأ قصيدة طويـلة يقول في مطلعها:

هـذي معالـم طيـبة يـا ساري ** فـأرق مآقي طرفـك المدرار

فرحا بمشهد خير من وطئ الثرى** وسمت به سرورا آل نـزار4

كما نظم ابن الشاعر محمد بن محمد المرابط في إحدى رحلاتـه إلى الديار المقدسة قصيدة دالية تناهز سـتة وثلاثين ومائة بيت، (136) سمـاها “الرحلة المقدسة”، وهي عبارة عن نظم للمراحل التي كان يمـر منها حجاجنا المغـاربة من باب الفتوح بمدينة فاس إلى المدينة المنورة، مـرورا بطرابلس، ويستمر في رسم خريطة السفر، وبيـان مميزات بعض الأماكن التي يمـرون بها، ليخلص إلى مـدح الرسول صلى الله عليه وسلم، خاتما قصيدتـه بالتوسل والدعاء، يقـول في مطلع هذه القصيدة:

زم الهوادج واتئـد يا حـادي ** فلقد حملت بها جمـيع فـؤادي

وتركتني عافي الحشـى متولها ** ذا زفـرة تذكي بقلب الصادي5

هكذا إذن، تزايدت صـلات أدباء وعلماء المغرب بإخوانهم في المشرق عن طريـق رحلات ركب الحجاج المنتظم سنويا، وما نتج عن هذه الصلات المتزايدة من إنتـاجات فكرية وتلاقحات معرفية، نتيجة الأخذ والعطاء، والتأثـير والتأثر.

وإذا أضفنا إلى ذلك تبادل الإجازات بين علماء المغرب والمشرق، وانتقـال التصانيف العلمية والأدبية بين مختلف المراكز العلمية بين الجـانبين، أمكن تصور جسر التبـادل الثقافي والمعـرفي بين البلدين.

وقد كان طالب العلم بالمغرب إذا ما اجتـاز مرحلة تكوينه العـلمي يشد الرحال إلى المشرق بنـية الحج الدينـي، والحج العلمي – إن صح هذا التعبيـر- ، وهذا ما جعل الحج من الفرائض التي يحرص كل مغربي على أدائـها، والدارس والباحث ينتقل من مدينة علمية إلى أخرى من أجل الاستفادة والإفادة، وقد تطول مثل هذه الرحلات العـلمية إلى المشرق، وتعاد أحيانا بحسب همة الباحث المعرفية، وقوة تطلعه إلى الثقافـة والفكر. وهذا ما يفسر لنا تأصل فريضة الرحلة الحجـية / العلمية عند المغـاربة؛ فالرحلة العلمية دعت إلى الحج، والحج دعا إلى الرحلة العلمية، وكأنهما وجهان لعملـة واحدة.

ونذكر من تقاليد ركب الحجيج المغـربي أنه كان يحمل معه “هـدايا للحرمين الشريفين، تتألف من مصاحف مهمة، وكتب قيمة، وجواهر فاخرة، كما يحمل هدايا فائقة لملوك الحرمين الشريفين، كما أن بعض الملوك المغـاربة يضيفون لتلك الهـدايا المتنوعة رسائـل يهدونها لروح الرسول صلى الله عليه وسلم، يؤكدون فيها ولاءهم وإخلاصهم للجناب النبـوي، ويتضرعون إلى الله في حل أزماتهم”6.

كان من الطبعي، إذن، أن يحـرص المغاربة على أداء فريضة الحج إلى البقـاع المقدسة، وأن يصبح الحج من أهم الوشائج التي ربطت بين المشرق والمغرب، وعملت على توحيد الثقـافة في سائر أنحـاء الوطن الإسلامي. ولعل البعد الجغـرافي بين المغرب والبقـاع المقدسة قد زاد من حرص المغاربة على أداء فريضة الحج، والتردد على مراكز الثقافـة العربـية والإسلامية في المشرق، سواء في مكة والمدينة ، أو البصرة والكوفة، أو بغداد ومصر، وغيرها من الأماكن العلـمية الأخرى، كما كان الوسط الاجتماعي – طبعا- مشبعا بالحـس الدينـي، وهو ما أدى إلى ارتباط عضوي وحميـمي بين ما هو دينـي وما هو علمي.

الهـــوامــــش:

1 – عبد الرحمن بن خلدون، “المقدمة “، ط1، 1993، دار الكتب العلمية، بيروت، ص:476.

2 – حسن الشاهدي، “أدب الرحلـة بالمغرب في العصر المريني”، مطبعة عكـاظ، الرباط، ج1/49.

3 – محمد المنوني، “ركب الحاج المغربي”، مطبعة تطوان، المخزن، طبعة 1953، ص:15.

4 – محمد المرابط وابنه محمد “الديوان”، مخطوط بالخزانة العـامة بالرباط، رقم:3644 د، ص: 12.

5 – نفسه، ص: 116.

6 – محمد المنوني، مرجع سابق، ص: 25.

‫تعليقات الزوار

2
  • سعد
    الأحد 27 غشت 2017 - 01:55

    شكرا لصاحب المقال لقد افدت و امتعت و ناسبت الحدث بماضيه…..الحج رحلة العمر إبراءا للذمة و إسقاطا للطلب و العلم الشرعي أخذه المغاربة و أدوه مشافهة من فقهاء الأمصار حتى تبحروا فيه و غير بعيد رحلة الشيخ أبي شعيب الدكالي و تندره بالأزهر الشريف مع بعض العلماء حينما سأله الأزهري -فيما يروى-و كان بينها طاولة :ماالفرق بينك وبين الحمار؟فأجاب شعيب:الطاولة
    ….بل عندما بعض كبار السن ممن حج مترجلا إذا حكى عن حجه أمتع و أسمع ….شكرا للكاتب ماأحوجنا إلى هذا الجانب في أدب الرحلة…..

  • الوجدي
    الأربعاء 30 غشت 2017 - 17:30

    مقال مفيد وجميل ما احوجنا لمعرفة تاريخنا شكرا لصاحبه انشري يا هسبريس

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة