حرب الريف والعالم ـ 10 ـ : استنكار وتنديد الرأي العام الإسلامي

حرب الريف والعالم ـ 10 ـ : استنكار وتنديد الرأي العام الإسلامي
الإثنين 5 يونيو 2017 - 04:47

سلسلة مقالات يومية يسلط من خلالها الدكتور الطيب بوتبقالت الأضواء على صفحات مجيدة من تاريخ المغرب المعاصر؛ ويتعلق الأمر هنا بالأصداء العالمية التي خلفتها حرب الريف (1921-1926) عبر ردود الفعل المتضاربة والمواقف المتناقضة التي سجلتها الصحافة الدولية إبان هذه الفترة العصيبة التي تعرضت فيها حرية وكرامة المغاربة للانتهاك السافر والإهانة النكراء.

لقد برهن أبناء الريف عبر انتفاضتهم البطولية في مواجهة العدوان الاستعماري الغاشم عن تشبثهم الدائم بمقومات الهوية الثقافية المغربية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، وعن فخرهم واعتزازهم بالانتماء الحضاري إلى مغرب مستقل ذي سيادة غير قابلة للمساومة.

إن أبناء الريف، بشهادة كل مكونات الرأي العام الدولي في هذه الفترة التاريخية ما بين الحربين، أعطوا دليلا قاطعا من خلال دفاعهم المستميت عن الحرية والكرامة أن المغرب بلد يسكنه شعب أصيل لا يرضخ أبدا للذل والهوان مهما كلفه ذلك من ثمن.

استنكار الرأي العام الإسلامي

تنديد الرأي العام المسلم بالاستعمار كانت له أبعاد متعددة تندرج كلها في إطار صراع حضاري وتفاعلات ثقافية وتواصلية بالغة التعقيد. إنه صراع مرير بدأ منذ الساعات الأولى من انطلاق الدعوة المحمدية وطبعته الحروب الصليبية بآثارها التي ما زالت حية في الذاكرة الإسلامية الجماعية، ثم جاء عهد الاستعمار والإمبريالية لبسط سيطرة ونفوذ العالم الغربي على أجزاء كبيرة من الأمة الإسلامية لإخضاعها لعبودية قوته الغاشمة. وكم من آمال في الانعتاق والحرية خابت، وكم من عزائم ضعفت قبل بلوغ المرام وتحقيق ولو جزء بسيط مما سبق تحقيقه في عصور الإسلام الزاهية. وفي خضم السخط العميق للرأي العام المسلم واستنكاره الشديد وشعوره بالإحباط الأليم من جراء النكبة التي ألمت بأمة الإسلام، اتجهت الأنظار إلى الجناح الغربي من العالم الإسلامي حيث ألهم الله أبناء الريف فأعلنوها ثورة على الظلم والطغيان. وتجددت الآمال في أن يتخلص المسلمون على أيديهم من أكبر ورطة سجلها التاريخ الإسلامي. إنها ثورة عبد الكريم الخطابي، واسم الخطابي لوحده كان كافيا لرفع أي لبس عن طبيعتها الأصيلة ومغزاها الإسلامي الحنيف.

وقبل الإعلان عن الهجوم المزدوج على الريفيين، تحرك الشارع الهندي المسلم بهدف تعبئة المسلمين الهنود لفائدة العمل الجهادي في الريف المغربي. وهكذا، منذ أواخر 1924 بدأ عبد القادر الهلالي في تنظيم حملة موالية لعبد الكريم، حيث سافر إلى دلهي، ثم إلى بومباي وبعد ذلك إلى شمال الهند. وتشكلت مجموعة من الشخصيات المسلمة البارزة، كان من بينهم الدكتور محمد نعيم، ليؤسسوا نواة من الدعاة لفائدة المجاهدين في المغرب. وكان هدف الاتصالات الأولية يرمي إلى جمع الأموال الضرورية لتنظيم بعثة طبية تتوجه إلى الريف. ومع بداية 1925، جرى تنظيم تجمع جماهيري ضخم في مدينة تشيتاغونغ – وهي ميناء يقع في خليج البنغال إلى الشرق من كلكوتا – حضره الماهتما غاندي. وانصب غضب الجماهير على الحملة العسكرية الفرنسية في المغرب التي تم الطعن فيها بكل عنف. وتحت رئاسة محيم شاندرا داس تأسست لجنة من أجل “التنديد بالهجوم الفرنسي على الجمهورية الريفية”. وأول ملتمس قدمه منير الزمان، عضو في المجلس التشريعي، وزكاه تربورا شارن، كان مضمونه: “إن هذا الحشد الجماهيري المتألف من الهنود ومن مسلمي تشيتاغونغ يندد بكل قواه العمليات العسكرية العدوانية التي تقوم بها فرنسا ضد الحكومة الريفية بالمغرب، بهدف اضطهاد العرب الذين ظلوا ينعمون بالحرية لمدة آلاف السنين”. وتقدم شاه بايدال علام بملتمس ثان: “إن هذا الجمع يطلب من عصبة الأمم اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية ضد العدوان الذي شنته الجمهورية الفرنسية والذي يتنافى مع كل مبادئ عصبة الأمم”. كما قدم منعت خان، وكان عضوا في المجلس التشريعي، ملتمسا ثالثا يعرب فيه عن أمل هذا التجمع في أن يقوم المسلمون والجماعات الدينية الأخرى في كافة أنحاء الهند بإدانة شديدة اللهجة للتدخل الفرنسي في المغرب.

ومن بومباي وجه شوكت علي النداء إلى كل المسلمين، لكي يرفعوا دعواتهم إلى الله حتى ينصر المجاهدين في الريف. وأفادت جريدة مسلم أوتلوك، الصادرة في لاهور يوم 7 ماي 1925، بأنه بسبب الحصار الشديد المضروب على الريفيين تعذر إرسال بعثة طبية إلى المغرب. وفي الجريدة نفسها بتاريخ 31 ماي 1925، وردت برقية لشوكت علي يقترح فيها بعث التبرعات إلى عبد الكريم عن طريق “صندوق الحجاز للإسعاف”. كما قررت سلطات البانجاب تقديم دعمها المالي إلى عبد الكريم عن طريق “إمبريال بانك أوف انديا”. كل هذه المحاولات لمساعدة الريفيين باءت بالفشل لشدة ظروف الحصار والتطويق الإمبريالي للثورة الريفية.

وفي تركيا، كانت الصحافة تعبر عن فرحتها في كل مرة تصل فيها أنباء من الجبهة الريفية تفيد بأن المجاهدين هناك أحرزوا على نتائج عسكرية معينة أو عززوا تقدمهم في اتجاه معين. وفي بداية يونيو 1925، نشرت جريدة ترك صوص قصاصات من القسطنطينية (استنبول حاليا) مفادها أنه ظهرت حركة عصيان في صفوف الجيش الكولونيالي في ضواحي مدينة فاس. وفي عين تاب وأماكن تركية أخرى نظم السكان، منذ بداية الحرب الريفية، حملة تبرعات في إطار الهلال الأحمر لفائدة المجاهدين المغاربة، والشيء نفسه حصل في سوريا. كما أقيمت الصلاة في المساجد تضرعا إلى الله حتى ينصر مجاهدي عبد الكريم.

وفي جزيرة جافا الأندونيسية، كتبت جريدة الوقف بتاريخ 25 أكتوبر 1925، تعليقا يفيد بأن “حرب الريف ليست شيئا آخر سوى حرب ضد الإسلام، لهذا يتوجب على المسلمين الإسراع في مساعدة الريفيين”. وتقول الجريدة إن الإسبان والفرنسيين، بدعم من الأمريكيين والبلجيكيين، يعيدون زمن الحروب الصليبية ويحثون أوربوا كلها وأمريكا على محو الشرق، وخاصة المسلمين. ونددت الصحيفة بالهمجية الفرنسية التي جعلت مسلمي الجزائر وتونس يقاتلون الريفيين إخوانهم في الدين. ونشرت جريدة الأهرام القاهرية، في عددها ليوم 17 ماي 1925، اللائحة السادسة للجنة التبرعات التابعة لمدينة القاهرة. ونظرا لأهمية الصحافة المصرية والنفوذ الذي كانت تتمتع به على صعيد العالم العربي، تدخلت الدبلوماسية الفرنسية لدى صدقي باشا كي يضغط على رجال الصحافة المصريين ويجعلهم يخففون لهجتهم فيما يتعلق بتحرير المغرب. وفعلا، هدد هذا الأخير بمنع جريدة “وادي النيل” ووجه توبيخات إلى جرائد مصرية أخرى كانت موالية للثورة الريفية. وبالرغم من ذلك تشبثت الصحافة المصرية بموقفها؛ وهو ما جعل المسؤول الدبلوماسي الفرنسي بالقاهرة يقترح حملة مضادة، حيث كتب إلى الخارجية الفرنسية يقول: “بالرغم من تدخل الحكومة المصرية، فإن الصحافة العربية ما زالت متمادية في حملتها بشأن أحداث الريف. ويبدو أن هذه الحملة ممولة من لدن مراكز الدعاية الشيوعية التي لا تجهل الأهمية التي تحظى بها الصحافة العربية المصرية في كل البلدان الإسلامية. (…) قد يكون من المفيد أن تتم الإشارة في الصحافة الفرنسية إلى هذه الحملة، وخاصة في جريدتي لوتان ولوماتان، بحيث يتم التأكيد على أن الحركة الوطنية المصرية ليست كما تدعي متحررة من الاعتبارات العقائدية، بل إنها بالنظر إلى موقف الصحافة من الريف ما زالت لم تتخلص من التعصب الديني. وسأعمل على إعادة نشر مقالات الصحف الفرنسية بهذا الصدد في الصحافة المحلية المصرية. وقد يكون من المفيد أن تنشر وكالة هافاس مختصرا لمقال جريدة لوتان”. وتوصلت وزارة الخارجية الفرنسية ببرقية بعثها “الراديكاليون الوطنيون المصريون” بتاريخ 14 يونيو 1925، يقولون فيها: “حرب عدوانية في المغرب. وحشية جدا. نطلب حلا سلميا فوريا. وإلا فإن سمعة فرنسا ستتلطخ إلى الأبد”.

لقد كتب عبد الكريم الخطابي رسائل، بتاريخ 6 أبريل 1926، موجهة إلى العلوي الحسيني القادمي، رئيس “مؤتمر الخلافة” بالقاهرة ليعرب له عن تعلقه المتين بالإسلام الذي يكافح تحت لوائه في المغرب، وموجهة كذلك إلى الشيخ محمد فرج المنياوي، رئيس “جمعية تضامن العلماء” بالقاهرة. وكان الرقاص (ناقل بريد)، الذي كلف بإرسالها عن طريق البريد الإنجليزي بطنجة، قد سلمها إلى عبد الكريم الحاج علي البقيوي؛ لكن هذا الأخير كان عميلا للاستخبارات الإسبانية التي كشفت عن مضمون رسائل عبد الكريم وبلغت الاستخبارات الفرنسية بذلك. وهذا ما جعل الإقامة العامة بالرباط تمنع مشاركة السلطان مولاي يوسف في “مؤتمر مكة”. وشارك مغربي واحد فقط في هذا المؤتمر، وكان هو السيد محمد الصديق، شيخ درقاوة بطنجة، وقد أعلن أنه لم يكن يمثل إلا نفسه. ودارت أشغال المؤتمر في القاهرة أيام 13-15-18-19 ماي 1926، ورفضت اللجنة المنظمة قبول قدور بن غبريط الذي كان موظفا ساميا في الإدارة الكولونالية الفرنسية التي اعتمدت عليه في تعزيز دعايتها الإسلامية المضللة. وفي شأنه سبق لجريدة الأمة المصرية أن كتبت مقالا تحت عنوان “قدادير غباريت”، ينعته بخديم الاستعمار الفرنسي: “قدادير غباريت، هو جمع لقدور غبريت، اسم لمسن مغربي دفع بسيده عبد الحفيظ إلى بيع بلده للفرنسيين بقبوله حمايتهم عام 1912، إنه الآن رهن إشارة وزارة الخارجية بباريس بصفته شاهد زور. ويستخدمه رجال السياسة الفرنسيون كلما أرادوا تضليل المسلمين من أجل إقناعهم أن فرنسا صديقة للإسلام وتدعم الخلافة بكل قواها”.

لقد ذهل الرأي العام المصري لتلقيه نبأ استسلام الزعيم الريفي، وكانت حسرته شديدة. ولم تصدق الصحافة المصرية في أول الأمر بصحة الخبر؛ لكن عندما تبددت كل الشكوك حيَّت كل الجرائد المصرية، وخاصة صحافة الوفد، شجاعة الريفيين وبطولتهم. “لقد استطاعوا أن يقفوا في وجه قوتين عظميين لأكثر من خمس سنوات من أجل الحرية والانعتاق”، وهذا، تقول الصحافة المصرية، “يعد انتصارا في حد ذاته”.

ولم تسمح ظروف القهر، التي كان يعاني منها الرأي العام المسلم في المغرب وإفريقيا الشمالية عامة، بالتعبير علنية عن السخط والتنديد بالعمل الإمبريالي المجرم ضد المجاهدين الريفيين الذين شهد لهم العالم الإسلامي قاطبة بالشهامة والامتثال لمبادئ الدين الحنيف وما تدعو إليه تعاليم الإسلام من تضحيات جهادية.

* أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة

‫تعليقات الزوار

4
  • لسان الشعب
    الإثنين 5 يونيو 2017 - 05:18

    وللأسف وددت لو أن فتنة الحسيمة لم تؤثر سلبا على تاريخ الريف المغربي الحافل

  • بخات
    الإثنين 5 يونيو 2017 - 07:56

    زعماء الامة الاسلامية لا يموتون بل يبقوا خالدين في الادهان وتزين بأسمائهم الاماكن «لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله اموتا بل احياء عند ربهم يرزقون…»
    الله يرحمكم.

  • يوسف
    الإثنين 5 يونيو 2017 - 09:56

    صدعتونا بهاد الريف لمادا لم تشيروا الى التاريخ المنسي عندما طرد ت قبائل دكالة البرتغال من المغرب بعد حصار جيوشها لمدة 5 سنوات

  • سعيد
    الإثنين 5 يونيو 2017 - 10:11

    مادا كان موقف القصر . ادا كان كل العالم يحتج

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 9

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين