حرب الريف والعالم ـ 8 ـ : التصدي للدعاية الاستعمارية بالمغرب

حرب الريف والعالم ـ 8 ـ : التصدي للدعاية الاستعمارية بالمغرب
السبت 3 يونيو 2017 - 06:00

سلسلة مقالات يومية يسلط من خلالها الدكتور الطيب بوتبقالت الأضواء على صفحات مجيدة من تاريخ المغرب المعاصر؛ ويتعلق الأمر هنا بالأصداء العالمية التي خلفتها حرب الريف (1921-1926) عبر ردود الفعل المتضاربة والمواقف المتناقضة التي سجلتها الصحافة الدولية إبان هذه الفترة العصيبة التي تعرضت فيها حرية وكرامة المغاربة للانتهاك السافر والإهانة النكراء.

لقد برهن أبناء الريف عبر انتفاضتهم البطولية في مواجهة العدوان الاستعماري الغاشم عن تشبثهم الدائم بمقومات الهوية الثقافية المغربية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، وعن فخرهم واعتزازهم بالانتماء الحضاري إلى مغرب مستقل ذي سيادة غير قابلة للمساومة.

إن أبناء الريف، بشهادة كل مكونات الرأي العام الدولي في هذه الفترة التاريخية ما بين الحربين، أعطوا دليلا قاطعا، من خلال دفاعهم المستميت عن الحرية والكرامة، على أن المغرب بلد يسكنه شعب أصيل لا يرضخ أبدا للذل والهوان مهما كلفه ذلك من ثمن.

برنامج التصدي للدعاية الاستعمارية بالمغرب

في عدد 2 مايو 1925، أعلنت صحيفة “ليمانتيه” لقرائها: “لقد شنت الجيوش الفرنسية غاراتها على عبد الكريم”. وفي 5 ماي قدمت الدعاية الرسمية الفرنسية نبأ بداية المجابهات في المنطقة الشمالية المغربية، وادعت أنها مجرد عملية عادية من عمليات “التهدئة”. وفي اليوم نفسه، أفادت وكالة “هافاس” في برقية لها من الرباط بأن هذه العملية موجهة ضد “المنشقين” وبأن الريفيين هم المعتدون.

لكن صحافة الحزب الشيوعي الفرنسي انفكت تماما عن هذه الدعاية الرسمية التي كانت تشكل الخط المحوري لباقي الصحف الفرنسية بتفاوت جد نسبي. وانبثق عن اجتماعات سرية عقدتها التنظيمات المركزية التابعة للحزب الشيوعي، بمقر جريدة “ليمانتيه” وكذلك بمقر الحزب بباريس، برنامج عام للتصدي لدعاية الاستعمار الفرنسي الخاصة بالمغرب، في ثلاث نقط:

1. ضرورة تنظيم لقاءت ومظاهرات ضد العمليات العسكرية في المغرب.

2. تعبئة الشبيبة الشيوعية في باريس وضواحيها، لتنشيط الدعاية ضد الاستعمار في صفوف الجالية المغاربية العاملة بفرنسا.

3. توجيه نداءات إلى الجنود الفرنسيين للتآخي مع الريفيين.

وكان الحزب قد وجه النداء يوم 13 ماي 1925 قصد شن حملة واسعة النطاق ضد “حرب المغرب”. وهو النداء الذي تأسست على إثره، في اليوم نفسه، “لجنة العمل المركزي”، وقد انضم إلى هذه اللجنة، إضافة إلى ممثلين عن الحزب، ممثلون عن الكونفدرالية العامة للعمل الوحدوي، والفيدرالية الوطنية للشبيبة الشيوعية، والجمعية الجمهورية لقدماء المحاربين. وأنيطت مهمة تنظيم مهرجان خطابي تعبوي كبير بهذه اللجنة، وهو المهرجان المعروف في السجل النضالي بـ “لقاء لونا بارك ” الذي تم تنظيمه يوم 16 ماي 1925 خصيصا لمساندة الريفيين.

مهرجان “لونابارك” الخطابي

حسب تقديرات وزرة الداخلية، جمع لقاء لونا بارك حوالي 3500 شخص، أما جريدة “ليمانتيه” ليوم 17 ماي 1925، فقد قدرت عدد الذين حضروا هذا اللقاء بما لا يقل عن 15000 شخص. ومهما يكن من أمر، فإن الإقبال على مهرجان لونا بارك كان حاشدا. والأهم من ذلك هو أن هذه التظاهرة الخطابية كانت إيذانا بالانطلاقة الفعلية لحملة الحزب الشيوعي الفرنسي ضد سياسة الاستعمار الفرنسي في المغرب عامة، وفي منطقة الريف على وجه الخصوص.

افتتح المهرجان أشغاله على الساعة التاسعة وعشر دقائق من مساء يوم 16 ماي 1925، وكان أول من أخذ الكلمة هو الكاتب العام لنقابات “السين”، حلل فيها أحداث المغرب بالموازاة مع تلك التي شهدها البحر الأسود عام 1918: “هاتان الحربان ليستا دستوريتين، إننا نتمنى أن يحدث عصيان في صفوف الجيش الفرنسي الموجود على خط النار في مواجهة الريفيين، وسيكون هذا شرف للطبقة العمالية الفرنسية”.

وقال ممثل الفيدرالية الشيوعية لمنطقة باريس: “لقد وعد تحالف اليسار بالسلام خلال الانتخابات البلدية، وهكذا صوتت لصالحه ملايين من العمال، معتقدة أنها صوتت لفائدة السلام، إنه لمن الضروري أن تكون جماهير التحالف على علم بذلك”. وندد هذا المتحدث بسياسة حكومة التحالف التي اعتبرها خاضعة لأوامر بنك باريس والأراضي المنخفضة، ومستنيرة بمشورة ودعم الزعماء الاشتراكيين.

كما دعا الجماهير الكادحة إلى القيام بعمل مشترك ضد الإمبريالية انطلاقا من تظاهرة قوية ضد الحرب الجارية في المغرب: “إنها حرب طويلة ودموية على الأبواب: حرب حبلى بتعقيداتها الدولية. رفاقي العمال، احذروا! شكلوا لجان وحدتكم العمالية، وعبروا من خلالها عن موقفكم المضاد للحرب الإفريقية، هيئوا عبر دعاية مكثفة مؤتمرا تعبر فيه شغيلة المنطقة الباريسية للحكومة عن إرادتها في إنهاء الحرب الريفية والجلاء فورا عن المغرب”.

وبعد ذلك، أخذ الكلمة جاك دوريو، العمدة الشيوعي لمقاطعة سان دوني، معيدا إلى الأذهان حملة جان جوريس ضد حرب المغرب: “لو أن هذا الخطيب الشعبي البليغ مازال على قيد الحياة، لأدان المارشال ليوطي والاشتراكيين الذين خانوا القضية العمالية العالمية بتصويتهم على الميزانية”.

وأكد دوريو على أن مسؤولية سقوط آلاف من الجنود الفرنسيين فوق التراب المغربي تقع كاملة على الإمبرياليين والصيارفة الذين جذبتهم وفرة المعادن وإمكانية فتح أسواق جديدة، ومن أجل تحقيق ذلك قضت نحبها هناك أعداد من الفرنسيين والاسبانيين.

وأعطى جاك دوريو لمحة موجزة عن تطورات القضية الريفية: “إن الشعب الريفي لم يكن يريد الحرب. في سنة 1922، طلب عبد الكريم وساطة إنجلترا، وكان الرد هو الرفض. فتقدم إلى فرنسا وأرسل مبعوثين إلى ليوطي، وكانت النتيجة نفسها. إن فرنسا لا تريد السلام. ومنذ 1924، اتبعت خطة حربية أخرى، ورغم استفزازات ليوطي، فإن الريفيين يريدون السلام. لقد بدأت الطائرات الفرنسية بقنبلة قرى ريفية معزولة، وأقيم حصار شديد على الريفيين، كما أن منطقة ورغة التي تعتبر مخزن الحبوب بالنسبة للريفيين يوجد الآن جزء منها تحت احتلال الجيوش الفرنسية، إنها المجاعة”. ووجه دوريو أمرا إلى الجنود الفرنسيين يدعوهم فيه إلى التآخي مع الريفيين.

بعده، تدخلت سيزان جيرو لتخاطب جمهور النساء، مذكرة بأهوال حرب 1914 وعمليات “حشو الدماغ” الدعائية التي واكبت هذه الأحداث الأليمة: “إن رفيقاتنا العاملات يتذكرن كيف تم حشو أدمغتهن سنة 1914. لهذا، فإنهن لن يسمحن هذه المرة بتكرار ذلك. ومن جهة ثانية، فإن النساء يردن الدفاع أكثر فأكثر عن حقوقهن السياسية، ولهذا جئن بكثرة إلى هذا المهرجان. إنه من الضروري أن تقوم النساء بدعاية مستمرة ضد حرب المغرب في المعامل، في الأوراش، وفي الإدارات”.

وباسم جالية شمال إفريقيا بفرنسا، ألقى الكلمة محمود بن الأكحل، الذي دعا المسلمين إلى عدم إعطاء أي مصداقية للدعاية الكولونيالية الخاصة بحرب المغرب، ونادى بإعلان الكفاح ضد “الطغاة من كل الأعراق”، مضيفا: “إن الريفيين سيشترون غدا ببضعة دولارات، فرنكات، جنيهات، وماركات؛ لأن المسلمين تركوهم للإبادة، وهم إخوانهم الأشقاء في الدين وفي القلب”.

وألح بن الأكحل في كلمته على مكافحة البورجوازية الأوروبية بالاعتماد على الحزب الشيوعي الفرنسي، واختتم قائلا: “ماذا تنتظرون، معشر المسلمين، لقد آن الأوان لتتحرروا من نير الإمبريالية الفرنسية والدولية. باسم قبائل الجزائر، أدعوكم لتحرير الريف”.

وعبر لامين سنغور -الذي سيصبح في ما بعد رئيسا للسنغال وكان آنذاك يعمل ساعيا للبريد في فرنسا -عن استيائه بصدد حملة التعبئة العامة التي استهدفت السود في بلده، لأجل تجنيدهم ضد الريفيين: “تتم اليوم عملية حشو أدمغة السنغاليين، تماما كما حدث ذلك بالنسبة للعمال الفرنسيين عام 1914، ويقال لهم إنهم سيواجهون الجنود الفرنسيين في حالة رفضهم التعبئة”.

ودعا سنغور الآباء الفرنسيين لمنع ذهاب أبنائهم إلى القتال في المغرب، كما ندد بحالة العبودية التي توجد عليها شعوب إفريقية مختلفة بفعل الإمبريالية الأوروبية. وكانت هذه العبارة ختاما لخطابه: “يا شعوب كل البلدان، اتحدوا، كسروا أغلالكم، وتآخوا”.

وباسم الجمعية الجمهورية لقدماء المحاربين، تمنى ديكلو لهذا المهرجان أن يخلف آثارا واسعة، حتى يتضح لعبد الكريم أن الطبقة العمالية الفرنسية لا علاقة لها بهذه الحرب المفروضة من طرف الرأسمالية الدولية. وأن البرولتاريا الفرنسية لا تتحمل أي مسؤولية في هذا الشأن، وأضاف: “يجب أن تقطع البحر أصداء هذا المهرجان لتبلغ الريفيين الذين يكافحون من أجل الدفاع عن بلدهم تحيات الشغيلة الباريسية”.

وانتقد فرانسوا شاسين، العضو في اللجنة الخاصة بالإعلام السياسي للحزب الشيوعي، مواقف الصحافة البورجوازية التي تجزم بأن حرب المغرب ما هي إلا مجرد عملية أمنية: “إن الخسائر في صفوف قواتنا هامة، ونتوصل من مصادر مختلفة بأخبار مصرع رفاقنا، وفي كل يوم تغادر قوافل دعم عسكرية جديدة في اتجاه المغرب، إن هذه الحرب طال أمدها، ومن الواجب على جنودنا أن يتآخوا مع الريفيين”. كما انتقد ترانت الرقابة الشديدة التي يمارسها تحالف اليسار الخاضع لنفوذ الأوساط المالية.

واختتم المهرجان أعماله على الساعة الحادية عشرة والربع ليلا بقراءة البيان الختامي الذي تمت الموافقة عليه بالإجماع. وكان كليمان ديسيسكلاد، عضو مكتب التنظيم باللجنة المركزية للحزب، هو الذي ألقى التقرير النهائي: “إن العمال البارسيين الـ15000، المجتمعين بلونا بارك، وبعد استماعهم لمختلف التدخلات، ليعلنون عن تنديدهم بالطبيعة اللامشروعة لحرب المغرب. وهي حرب أرادتها وخططت لها منذ سنتين الطغمة العسكرية بالرباط، امتثالا لأوامر التكتلات المالية وبنك باريس والأراضي المنخفضة، من أجل الاستحواذ على ثروات الريف المعدنية، وإخضاع الشعب الريفي، هذا الشعب المسالم الذي قدم تضحيات جساما من أجل الحفاظ على استقلاله. لذا يعبر المجتمعون بلونا بارك عن إرادتهم في مكافحة هذه المجزرة بكل الوسائل النضالية الفعلية، الكفيلة بتحقيق سلام فوري في الريف، والاعتراف بالجمهورية الريفية، والجلاء عن المغرب”.

يمكن القول، بعد مهرجان لونا بارك الخطابي، إن حملة الحزب الشيوعي الفرنسي ضد حرب الريف قد رسمت أفق العمل النضالي، وأشارت إلى طبيعة الوسائل التي يمكن توظيفها لبلوغ ذلك الهدف. ولم يبق إلا الممارسة الميدانية الفعلية لتجسيد الالتزام داخل فضاء إيديولوجي واضح المعالم، أصبح يفرض نفسه في المعترك السياسي الفرنسي.

* أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة

‫تعليقات الزوار

10
  • maradonna
    السبت 3 يونيو 2017 - 08:02

    للذين يقولون أن عبد الكريم الخطابي كان خائن..!؟ ألا تقرؤون؟ عجيب.. صدقت مصادر إسرائيلية التي قالت" العرب لا يقرؤون.. وإذا قرؤو لا يفهمون.. و إذا فهمو لا يطبقون"..

  • amghar
    السبت 3 يونيو 2017 - 09:01

    tres bon article,sauf il y a une erreure:Lamine Senghor, né le 15 septembre 1889 à Joal (Sénégal) et mort le 25 novembre 1927 à Fréjus (France), est un militant politique sénégalais. Il n'a pas de lien de parenté avec le président Léopold Sédar Senghor, malgré plusieurs similitudes dans leurs parcours (origine sérère, naissance à Joal, promotion de la négritude, séjour en France)

  • مغربي حر
    السبت 3 يونيو 2017 - 09:19

    ((( لذا يعبر المجتمعون بلونا بارك عن إرادتهم في مكافحة هذه المجزرة بكل الوسائل النضالية الفعلية، الكفيلة بتحقيق سلام فوري في الريف، والاعتراف بالجمهورية الريفية، والجلاء عن المغرب )))
    يدعون بأن لاعلاقة لهم بالحرب ويبيتون تمزيق المغرب لأنهم يعلمون علم اليقين أن المغرب سيخرج منتصرا في حربه ضدهم

  • Smarre
    السبت 3 يونيو 2017 - 10:10

    Merci pour Le commentaire 3 qui a rectifier
    Le reste pour l'historien trop gonflé

  • مليكة الثومي
    السبت 3 يونيو 2017 - 10:26

    شكرا جزيلا استاذي على العرض القيم الذي يجلي الغموض عن الذاكرة . ومن خلاله اقدم تحياتي الخالصة إلى المرأة الريفية المناضلة عبر التاريخ . كما رسخ لدي العرض عدم الاستغراب من شخصية المواطن الريفي التي صنعتها المحن والشدائد فانتجت الرجل الشهم البطل الذي لا يرضى الخنوع . تحية لابناء الريف الأحرار.

  • التسول
    السبت 3 يونيو 2017 - 12:39

    نلاحظ أن الحزب الشيعي هو المعارض اﻷول والمساهم في إستقلال المغرب .حسب المقال. وتحي لكل مناضل ومناضلة ضد اﻷستعمار والعنصرية

  • tomahok
    السبت 3 يونيو 2017 - 12:44

    الحزب الشيوعي الفرنسي كان له دور أساسي في إستقلال المغرب

  • tomahok
    السبت 3 يونيو 2017 - 12:47

    المفهوم من النص تاريخي أن الحزب الشيوعي الفرنسي لعب دور كبير في إستقلال المغرب

  • tomahok
    السبت 3 يونيو 2017 - 12:55

    تحية إلى كل رجال المقاومة جدي من قبيلة التسول توفية على يد المستعمر الفرنسي قرب واد المهار

  • أبو جابر
    الجمعة 27 أبريل 2018 - 21:48

    جدي أيضا من قبيلة التسول (بني لنت) و قد استشهد عند مقاومته للفرنسيين ..

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة