"مقهى بغداد" .. السينما تفكّك العنصرية وتحتفي بالحركة النسائية

"مقهى بغداد" .. السينما تفكّك العنصرية وتحتفي بالحركة النسائية
الأحد 2 فبراير 2020 - 07:00

-1-

يبدأ كل شيء أحيانا برحلةٍ غلط، شيء نظن أنه يمثل ما نريده، لكننا نكتشف بعد مدة أننا كنّا على خطأ فتبدأ عندها كل المعاني بالظهور وبالتلاشي خلف الضباب في الوقت نفسه.

تبدأ رحلة النور وتمشي “ياسمين”، (بطلة الفيلم، تشخيص الممثلة Marianne Sagebrecht)، على طريق صعب صحراوي وشاق. كانت المرأة مضطربة وغاضبة وباحثة عن شيء ما. هكذا يبدأ فيلم “Bagdad Cafe” وهو من إخراج Percy Adlon، إنتاج سنة 1987.

هل هي قصة “بريندا” أم قصة “ياسمين”؟

هل هو بحث عن آلة قهوة لإصلاح وضع مقهى على حافة الإفلاس في مكان نائي أم إن المسألة مسألة بحث عن ملجأ لروح امرأة أو لأرواح نساء ضائعات؟

-2-

تصل السائحة الألمانية “ياسمين” مشيا على الأقدام وهي تجر حقيبة ملابسها إلى المقهى بمحطة الوقود الصحراوية، (تصميم التقط في تقاطع بيّن عيناها ضيقتان وشديدتا الزرقة لكنهما مليئتان بالدفء والتساؤل). تلتقي نظرة “ياسمين” بنظرة “بريندا”، (صاحبة المقهى المرأة الغاضبة العصبية، تشخيص C. C. H. Pounder)، فتكون البداية استغرابا وتساؤلا. لكن سرعان ما سيظهر عبر سرديات الفيلم أن اللقاء مجال واسع للحلم وللعيش بين الحزينة والغاضبة، فهما تتماثلان في لوحة يتقابل فيها إحساسهما وألمهما وربما سعادتهما فيما بعد.

فكَّك فيلم “Bagdad cafe” عدة مفاهيم فكرية كالعنصرية والنزعة النسائية والحدود والنوع والحب والكراهية والأسرة والزواج والسفر، بل لقد جعل المخرج معنى القهوة البسيط يسمو بشكل مدهش عبر مشاهد الفيلم. يمكن القول إن فيلم “Bagdad Cafe” يحتفل بالحركة النسائية ويغير نظرتنا لتعريف مفهوم التراجيديا.

هناك العديد من التيمات (Themes) في فيلم “Bagdad Cafe”، تمت معالجتها بإحكام وبسلاسة وبترابط يجعل المتلقي يغوص بمتعة في معاني الحكاية، ويتفاعل مع كل الشخصيات، ويطرح تساؤلات وجودية مثل: كيف يمكن للألعاب السحرية أن تجلب السعادة والأمل لحياة شخص ما؟

-3-

تنبني حكاية فيلم “Bagdad Cafe” في فضاء فندق شبه مهجور ومقهى محطة بنزين للشاحنات وكارافان هي عبارة عن مرسم فنان تشكيلي، (تشخيص Jack Palance)، فريد المظهر عميق الإنسانية ودائم الابتسامة.

في عزفه على البيانو، وخاصة مقطوعات الموسيقار العالمي موزارت الخالدة، كان ابن “بريندا” الذي عاش حياة مضطربة، يحاول زرع الروح والحركة داخل الصمت والرتابة التي كانت تخيم على المقهى. لم تكن “ديبي”، المرأة الواشمة، التي تقيم في الفندق شبه المُقْفَرِّ تتكلم، كانت غريبة الأطوار أو هكذا حاولت بناء سورٍ حول نفسها لحماية روحها من الضياع هي الأخرى. ابنة “بريندا”، المراهقة المرِحَة، فتاة لا تهتم بالتفاصيل، لذلك فهي تفضل الهروب إلى الحياة البوهيمية والألوان مع مراهقين وسائقي شاحنات لا يلوُون على شيء مثلها.

من كان سينقذهم جميعا من الفوضى والضياع الذي يظهر أنهم غارقون فيه؟

إن فيلم “Bagdad Cafe” حريص في اهتمامه بالتفاصيل وبأصغر الأشياء بصريا وفي الحوارات، إنها الألعاب السحرية والواقع المُر: إنه الحزن الشديد والسعادة الناعمة والفوضى وانعدام المعنى والتناغم المجيد مجتمعة في الوقت نفسه.

تم تصوير الحُرية في الفيلم بشكل مختلف. لكن، ما دور الفن إن لم يكن يغير نظرتنا إلى كل شيء؟

قاومت “بريندا” الحب والامتنان والتقدير الذي كانت “ياسمين” تظهره لها. حال في البداية بين “بريندا” و”ياسمين” الإحباط والقلق والغضب، فكانتا، لاحقا، ملجأ لبعضهما البعض.

-4-

في الفيلم شيء من شكسبير وشيء من حياتنا اليومية. لا يمكن أن يسمو بنا إلى هذا المستوى من النظر إلى الأمور إلا فنان مبدع: في مشهد دخول الزوج الألماني إلى المقهى وحديثه مع الرجل أفريقي الأصل والهندي الأحمر، نتذكر أعمالا فنية كونية كبرى كـ”عطيل” و”هاملت” حيث يلتقي أشخاص من أجناس مختلفة وهم ضائعون، لكنهم يتوقفون لحظة لمحاولة فهم الحياة، حيث تصور الكاميرا بدقة وجوه هؤلاء الرجال وحديثهم بعمق.

الفكاهة جد حاضرة في الفيلم بطريقة ذكية جدًا: غضب “بريندا” وكيفية صراخها كان لطيفًا ومضحكًا بطريقة ما، كذلك كان صمت “ديبي” المرأة الواشمة. أما السيد “كوكس”، الفنان التشكيلي، فكان يضحك من غرابة الحياة.

في الفيلم تمثل كبير للتطابق (Mirroring) كما وصفه “جاك لاكان” في تحليله لكيفية تكوين شخصية المرء وكيف أنه، أو أنها، غالبا ما يبحث عن المرآة داخله أو في شخص آخر، في سبيل تحديد معنىً للوجود، وتكوين الشخصية المستقلة بكيانها.

-5-

في مشهد تنظيف “ياسمين” للمقهى هناك لقطة تظهر فيها وهي تنظف خزان مياه محطة الوقود المكتوب عليه “Bagdad Cafe”، تغضب “بريندا” من مبادرة “ياسمين” وفي غضبها تكمن سعادة دفينة.

في الحكاية مُنعطف سردي قادم: كانت “بريندا” هي ربة العمل وهي السيدة والمسؤولة التي تسيطر على الجميع، ولعل ذلك دعوة ذكية، تميز الفيلم، لتغيير نظرتنا إلى الآخر “الأسود” “العبد” دائما.

كانت راحة “بريندا” في الفوضى قبل مجيء “ياسمين”، وعندما غابت الفوضى فقدت توازنها في البداية، لقد كانت “بريندا” خائفة ولعلنا كلنا خائفين كما ناقشت ذلك الكاتبة Amy Poehler في كتاب “Yes please”.

يتعلم الجميع الكثير عن الحياة في هذا الفيلم، فقد كانوا جميعا يغنون داخليا، (أغنية الفيلم الرائعة Calling you)، لقد كانوا وكأنهم ينادون أحدا ما، استنجادا من رياح رملية وحرارة مفرطة تلفهم في غياب الحب والفن والألفة.

-6-

لا نتوقع عادة أن تكون امرأة سمينة بطلة وجميلة لأن منظومة الثقافة العالمية الاستهلاكية تفرض ذلك، وها قد فكَّك الفيلم نظرتنا ومنظورنا إلى المرأة وإلى جسدها.

إن الصورة في الفيلم رمز للجمال، حتى صورة الأشياء القبيحة كانت جد جميلة، فالسماء شديدة الزرقة في النهار وشديدة الحمرة في المساء والقهوة هي القصة… شكلت موسيقى البيانو خلفية للوحة متكاملة النقص ومحترفة التيه، كما شكلت لوحة السيد “كوكس” في غرفة “ياسمين” بداية يوم مشرق.

ويرتد البلومرانغ ويرتفع عاليا وقد أطلقه الشاب الذي يجرب شيئا ما أو يستدعيه. يقول زوج “بريندا” وهو يراقب المحطة من بعيد: “Oh Brenda أوه كيف يمكنك التعامل مع الحياة بدوني”، ونسمع مرة أخرى أغنية “I am calling you” (إني أناديك).

تعرفت ياسمين على ابنة “بريندا” وهي ترتدي ملابس زوجها فقفزت في الهواء فرحا كطفلة صغيرة. بدأت مقاومة “بريندا” لأي شيء جديد، خارج منطقة ارتياحها الفوضوية المألوفة، تتلاشى. تجلب الألعاب السحرية التي تؤديها “ياسمين” رؤية جديدة للجميع في عالمهم الصغير جدًا، عالم محطة الوقود واستراحة سائقي الشاحنات.

ضائعة كانت شخصيات حكاية فيلم “Bagdad Cafe” جميعها، وفجأة يضرب الواقع. تبدأ المشاهد البطيئة والمملة في العودة مع انتهاء الألعاب السحرية إثر انتهاء صلاحية تأشيرة “ياسمين”.

تتطلع “بريندا” مرة أخرى إلى الأفق في انتظار شيء ما، ربما كانت تنتظر عودة “ياسمين” التي اضطرت للمغادرة أو ربما خافت من فقدان زوجها مجددا. كانت “بريندا” سلمية وصامتة هذه المرة عكس عصبيتها وصراخها الشديدين في بداية الحكاية، لقد تغيرت نظرتها وغدت تحمل أملا.

عادت “ياسمين”، حدثت المفاجأة فسطعت في عيون “بريندا” الجميلة فرحة كانت دفينة فوضى سابقة. ستذهب “ياسمين” و”بريندا” إلى حقل يانع حيث تلتقطا زهورا برية وهناك تعيشان وئاما ظاهرا.

-7-

يجعلنا فيلم “Bagdad Cafe” ببساطة نبتسم، يجعلنا نرى عبر ذواتنا، ويجعلنا نعيد النظر في الموضوعات التي ألفناها وغدونا نراها بشكل مختلف بعد مشاهدته.

أليس هذا دور السينما حقًا.. أن تجعلنا نبني رُؤًى ونفتحَ آفاقًا جديدة؟

*كاتبة وناقدة من لندن

‫تعليقات الزوار

7
  • Blu
    الأحد 2 فبراير 2020 - 08:41

    "لا نتوقع عادة أن تكون امرأة سمينة بطلة وجميلة لأن منظومة الثقافة العالمية الاستهلاكية تفرض ذلك"؟؟لا يا سيدتي بل النساء السمينات هن اصحاب الثقافة الاستهلاكية و العقلية النسائية الكسولة )lazy feminism) التي تتبنى مبدئ تقبلني كما انى ،جميلة بدون مجهود…منظمة الصحة العالمية هي من ضد السمنة، زرت قبائل الباجوا البدائيين الذين يعيشون فوق البحر و الجزر النائية و لم اجد انسانا بدينا واحدا ، لانه مجتمع سليم و طبيعي
    بخصوص الفيلم فهو محاولة المانية لمحاكات marry poppins ،بنكهة ليبرالية. اما بخصوص التيارات النسوية فهي لن تنتج ابدا شيء جيدا طالما لا زالت تتبنى عقلية الضحية بالمجتمع،شاهدوا وثائقي The Red pill فهو ممنوع العرض لانه يفضحهم
    Les acteurs sont bons mais le film manque de punch et de cohérence dans son scénario, fort dommage… Nous noterons que le film se révèle plus intéressant sans cette fin bâclée qui agace en nous forçant à rester sur notre faim… Bref : film passable pour un drame qui aurait pu être plus ambitieux, et fin catastrophique font de Bagdad Café une petite déception…

  • يوغرطة
    الأحد 2 فبراير 2020 - 10:25

    شاهدت هد الفيلم. كان علي حسن قد قدمه في برنامجه السينمائي سينما الخميس. واعطى عنه نظرة مقتضبة لتحفيز المشاهد على مشاهدته حتى النهاية. كما استباق خيبة المشاهد من اسم الفيلم.مقهى بغداد. الذي يكون قد خلف لديه توقعات مبينا ألا علاقة لإسم الفيلم ببغداد او العرب عموما مع التلميح الى أن المخرج وضفه بذكاء عميق كما هو عمق الفيلم. كانت فرجة ممتعة. شكرا هسبريس ذكرتني به و سأحاول البحث عنه ومشاهدته من جديد. ستكون مشاهدة بطعم آخر بعد اكثر من 25 سنة على مساعدته صحبة حسن علي.

  • Abdelaziz Ananou
    الأحد 2 فبراير 2020 - 12:34

    شكرا على التذكير… سأعيد مشاهدته بعد كل هذه السنين… ما أتذكره هو أنه ترك في انطباعا جميلا، وقضيت وقتا ممتعا، وانتابني إحساس لدرجة التعلق بتلك الوجوه ومناخ المكان…

  • يوسف حسن
    الأحد 2 فبراير 2020 - 15:09

    من أجمل ما شاهدت فيلم مقهى بغداد…………كل شيء فيه رائع…أول مرة شاهدته في أواخر التسعينات إن لم تخنني الذاكرة في برنامج سينما الخميس لعلي حسن على القناة الأولى.
    من روائع السينما العالمية…أعدت مشاهدته عدة مرات دون ملل كل مرة أكتشف شيئا آخر وجديد…إنه واحد من أفضل الأفلام على الإطلاق كل شيء فيه محبوك للغاية…شكرا على هذه النوستالجيا الرائعة.

  • محمد ياسين
    الأحد 2 فبراير 2020 - 16:02

    من أروع الأفلام الأمريكية التي شاهدت تفاصيل الفيلم ما زلت أتذكره إلى اليوم الفيلم له دلالات عميقة يمكن أن نستخلص منه عدة أشياء أظن شاهدته في منتصف التسعينات في سينما الخميس محمد علي

  • يوسف
    الأحد 2 فبراير 2020 - 16:18

    اتدكر اول مرة شاهدت هدا الفيلم الرائع في برنامج سينما الخميس لبدي كان يقدمه الاعلامي المتميز علي حسن خيث قام بتقديمه يطريقة رائعة شكرا هسبريس.

  • بلي محمد المملكة المغربية
    الثلاثاء 4 فبراير 2020 - 11:39

    بعض الحروف ادا سمح المنبر شكرا حروف بالعربية بين قوسين بدل لغة اخرى التي ترجمت بها جل الصور السينمائية القديمة والحديثة السمينة والضعيفة كدالك الكل يعرف ان السينما ادا ركزت على صورة سينمائية متميزة وعلى مستوى عال مرت عليها عشرات السنين فأنها تعيدها للمشاهد العاشق والممارس لتكون قدوة للقادمة السينما تعطي الدروس مثل هدا الفيلم قليل فالممثلون القدامى كانوا على معرفة جيدة بالسينما اكتفي والا ستجرني الكلمة الى مالانهاية فالمساحة محدودة

صوت وصورة
مع المخرج نبيل الحمري
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:17

مع المخرج نبيل الحمري

صوت وصورة
عريضة من أجل نظافة الجديدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 12:17 3

عريضة من أجل نظافة الجديدة

صوت وصورة
"ليديك" تثير غضب العمال
الخميس 18 أبريل 2024 - 11:55 1

"ليديك" تثير غضب العمال

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 9

احتجاج أرباب محلات لافاج