إيلبا بيكو (1942-2013) .. تانغو الموت عند السّادسة صباحاً

إيلبا بيكو (1942-2013) .. تانغو الموت عند السّادسة صباحاً
الأحد 31 يوليوز 2016 - 02:30

في رسالة امتنان وشكر، بعث بها شهر تشرين الأوّل من عام 1492 إلى الملكين الكاثوليكيين إيزابيلا الأولى وفرناندو الثاني، تحدّث الرّحالة الإيطالي كريستوف كولومبس عن انتصارات إسبانيا وتوسّعِها في أمريكا، بعدما تغلبت على ملوك غرناطة ورفعت راية النصر فوق قلعة الحمراء. على المركب الذي أقلع به كولومبس أثناء بعثته، كانت هنالك لا غرو ثلة من المهزومين: سادة قوم، من المورسكيين والحجازيين والعبرانيين، صاروا بحّارة في خدمة المستكشف؛ قطعوا معه الأطلسي وبلغوا رفقته السّواحل الأمريكية-اللاتينية التي يرجع منها الأحفاد، عرب أمريكا، لزيارة الأرض بين الصّيف والآخر.

علاوة على الحكايات المعاصرة لهذه السّلالة/الإثنية من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين والمصريين، ثم المغاربة، العائدين خلال العطل إلى بلدان أسلافهم، هناك قصّة لم يروها أحد بعد. قصّة إيلبا بيكو (1942-2013)، مغنية التانغو الأرجنتينية، السيدة الهادئة والمحبوبة في برشلونة. سيّدة التانغو القطلوني. تلخّص رحلة حياتها أوجاع الوطن ومتاعب أجيال من المهاجرين القاطنين في الضّواحي، وحنينا غابراً لعروبة سابقة على سقوط الأندلس. كانت إيلبا تفتخر بأصول عربية مفترضة، وكانت تقول إنها من نسل المغيرة بن شعبة الثقفي. لكن ما الذي تعرفه العرب اليوم عن الأرجنتين، غير ليونيل ميسي، وغير المتّة التي أتى بها الشّوام إلى الشّرق؟ ولماذا عادت إيلبا إلى شبه الجزيرة الأيبيرية بعد قرون من الانقطاع، لتنشد التانغو بين الكتالان والأمازيغ والغجر؟

الخروج إلى قطلونيا

عام 1972، خرجت إيلبا بيكو من “لا باتيرنال”، الحي الشعبي في العاصمة الأرجنتينية حيث ولدت، إلى برشلونة، حاضرة منطقة قطلونيا. حزمت أمتعتها، جمعت الصّور والديسكات والفساتين، وودّعت “إيل بايخو آلماسين” (El Viejo Almacén)، صالة الحفلات الشهيرة التي شهدت انطلاقتها عندما كانت تغني التراث الشعبي الأمريكي-اللاتيني هناك، رفقة عازف البيانو كارلوس غارسيا. قبل سفرها، ساهمت في “أنطولوجيا الأغاني الشعبية” (1969) مع المعهد الوطني للعلوم الموسيقية. في برشلونة، ستصبح الشابة الأرجنتينية، الوافدةُ الجديدةُ، واحدةً من الوجوه المألوفة في السّاحة الفنية، وستصدر ألبومها الأوّل تحت عنوان “مئة عام من التانغو” (1973)، ثم الألبوم الثاني “السّكرة الأخيرة” (1989) الذي كرسّها كاسم غنائي بارز.

بداية التسعينات، التقت إيلبا بالمغنية مايتي مارتين ونشأت بينهما صداقة طويلة، امتدّت حتى أيّامها الأخيرة. غنّيتا معا في عدّة مناسبات، رغم اختلاف التوجه الموسيقي. لقد اختارت إيلبا التانغو دون غيره من الأشكال الغنائية والطربية الأخرى التي كانت شائعة في العالم الأيبيري، لأسباب شرحتها في حوار مع جريدة “إلبايس” قائلة: “مثل الفلامنكو، خُلق التانغو من دمعة تسيل على خدود المهاجرين الذين غادروا أوطانهم وذويهم. يتناول التانغو الحب واللامبالاة، لكنهما ليستا التيمتين الأساسيتين اللتين تسِمانه، فدوره أن يخوض أكثر في كنه الوجود الإنساني. هذا التفصيل هو الحد الفاصل بين البوليرو والتانغو. يتناول البوليرو الحب واللامبالاة كذلك، لكن ما ينقصه هو عمق التانغو”. لم تظهر إيلبا على شاشات التلفزيون إلاّ مرة واحدة، يوم استضافتها القناة القطلونية الثالثة سنة 1988، وأدّت حينها “أغنية” من كلمات الشاعر كاتولو كاستيو.

ظلال بورخيس

في “كتاب الرّمل”، يتحدث بورخيس عن المكان الذي اختاره لإخفاء ذلك المجلد الغريب واللامتناهي، الذي ابتاعه من رجل دين عابر، خوفاً عليه من الضّياع. موضع كتاب الرّمل، قبل أن يختفي أثره داخل المكتبة الوطنية في شارع مكسيكو، سيكون هو موضع مجلدات ألف ليلة وليلة في خزانته المنزلية. “فولكرياندو” (2013) هو الألبوم الأخير لإيلبا، وهو أيضاً المتاهة الغنائية التي لم تخرج منها. ذات المتاهة، أوصلتها إلى صاحب كتاب “ألف” عندما اشتغلت على عرض “تانغو من ميناء إلى ميناء” في قاعة الملكة إليزابيث بلندن سنة 2002، وهو عرض مستوحى من أعمال بورخيس الذي عاشت إيلبا مثله مجاورة الحدود واللغات والأنغام.

كانت إيلبا مثل حكاية ذلك الكتاب، تظهر وتختفي، وتستذكر الأرقام والخرافات العربية. تحكي لي ابنتها رحيل، ونحن نلتهم طبق بطاطس مقلية في ساحة النّافورة (Plaça del Sortidor)، عن الجذور العربية لوالدتها بالقول: “إيلبا عربية من أجدادها لأمّها. جدّتي، أي والدتها، كانت تسمى روزا دي نافاس المغيرة، كما أنّ أمّي كانت قد حكت لي أنها، عندما كانت صغيرة، كانت قد شاهدت شجرة العائلة وعليها صور بعض الرجال المُعمّمين. رجال عرب. كما أنّ اسمها الأوّل، بيكو، يرجع إلى التشويتاس (chuetas)، أي الجماعات اليهودية المختلطة التي بقيت في إسبانيا واضطرت لدخول النصرانية بعد قيام محاكم التفتيش”.

كان المساء قد حلّ، عندما جلسنا في مطعم خوسي لويس البورجوازي، وسط برشلونة، رحيل والأب ألفاو وأنا. إنّه المكان المفضّل لدى ألفارو، المحامي المتقاعد، غير بعيد عنّا يوجد المشرب الذي تعرّف فيه على إيلبا وقرّرا الزواج حينها. شاهدنا مقطعا من “أغنية”، بصوت إيلبا، ثم أوقفناه. كانت عينا ألفارو دامعتين وحزينتين وهو يحدق إلى الحبيبة. “إنّها أروع مغنية تانغو على الإطلاق”، تمتم قبل أن نغادر المكان. توفيت إيلبا على السّاعة السادسة صباحاً، تماما عند السادسة، في يوم صيفيّ دافئ. كانت تعلم ذلك جيدا، الرّحيل بعد الفجر، بل كانت تكرّره رفقة المقربين إليها وهي تغني كلمات صديقها الشّاعر هوراسيو فرير:

“سأموت في بوينس آيرس عند الفجر،

سأجمع بهدوء أشياء حياتي،

شِعري مُغبرّا بالوداع والشظايا،

تبغي والتانغو وحفنة أشجان.

(…)

سأرى النّور محيطاً بكتفيّ،

وعلى طاولة الظل سينمحي النبيذ،

موتي المحبوبة ببطء ستنزلق رخوة

سأموت في الوقت المحدّد

عندما تحين السّادسة

(…)

إنْ كان الله قد توقف عن الحلم بي سأمشي صوب نسياني،

أنت ستنتظرني عند “سانتا فيه” مغمورا بحزن يائس

احضني بقوّة، أنت تعلم، أنتظر وأصغي لموتي،

الموت الكهلة الجارحة دائما وبلا رأفة

هيّا يا روحي، فلنذهب

النهار يطلع فلا تبكي

سأموت في بوينس آيرس عند الفجر،

إنها الساعة التي يفضّلها المتمرّسون على الموت،

صمتي سيحفظ الكُربة الحارقة

لتلك القصيدة التي لن أقولها لك قطّ…

سأكون ميّتة…

عندما تحين السّادسة…”

ماتت عند السّادسة، لكنها لم تر بوينس آيرس مجّدداً. في الذكرى الأولى لوفاتها، في الـ13 تموز 2014، حضرت الأسرة الصغيرة والأصدقاء ومجموعة من الزملاء المقرّبين: ابنتها خوانا وصديقتها مارتين والعازف مارسيلو مركادنتي، الذي أصدرت معه “ضواحي الروح” (2007)، وكذاك الموسيقي الشهير باكو إيبانيز الذي أدّى في وداعها قصيدة الشاعر الإسباني خورخي مانريكي “موشّحة عن وفاة أبيه”. ماتت عند السّادسة، واختلط رماد عظامها المحترقة مع مياه المتوسط، عند ساحل فيلانوفا. ماتت في برشلونة، ولم تر على أيّ رفّ من الرّفوف وضع الحائر مخطوطه المخيف.

‫تعليقات الزوار

7
  • بتشششششاخخخ
    الأحد 31 يوليوز 2016 - 05:27

    موضوع لم يحض بأي تعليق؛ غريب !
    ما كاينش شي واحد يقول :" الله يرحمها" أو شي متأسلم يقول ليك:" التانغو، جاء في القرآن" كما جرت العادة … بتشششششاخخخ
    آه عندما يتعلق الموضوع بالفن … !

  • Philosophus
    الأحد 31 يوليوز 2016 - 05:30

    فلترقدي بسلام يا إيلبا …

    لقد غنيت فأطربت وعندما فعلت …كان شدوك يخترق كل القلوب الحية وبكل اللغات … مع كل الحب والاحترام يا أيتها العظيمة.

    تحية حارة لكاتب المقال .

  • حسان
    الأحد 31 يوليوز 2016 - 13:06

    كم هو جميل أن نلقي نظرة على ثقافة الآخر…البعض منا لايستطيع ذلك وقد ينزعج لأنه لا يستطيع رؤية ثقافة غير ثقافته…إنه الانغلاق القبلي والتعصب لهوية الانتماء دون سواها…حطموا أغلال العصبية الثقافية وافتحوا قلوبكم للآخر ستكتشفون أن هذا الآخر شبيهكم تشتركون معه في كل شيء، في كل ماهو ينتمي للإنسان…نحن مقبلون على عالم بدون حواجز بين البشر والثقافات لنقلها إنها العولمة الثقافية فلنستعد لذلك بدون عقد ولتمت القبيلة والعصبية وليمت المتزمتون المتطرفون الذين لا يرون وجودهم إلا في إلغاء الآخر …
    شكرا هسبريس، بمثل هكذا مواضيع تنشرين ثقافة الانفتاح والتسامح…

  • A.B
    الأحد 31 يوليوز 2016 - 18:30

    Merci Ayoub et Hespress des ces propos. Vous m'avez fait connaître cette fabuleuse chanteuse du Tango Elba Pecö. D'origine musulmane, elle a beaucoup donné aux autres cultures. C'est ainsi que se constitue les civilisations. Sachant que l'art n'a pas de limite et de frontière quoi qu'il en soit. Cordialement

  • La Recoleta buenos Aries
    الأحد 31 يوليوز 2016 - 20:02

    أشهر مسارح رقص التانكو هم (teatro colon ) تياترو كولون ، والتأني مقهي كافي تارتوني (café tortouni) ومسرح سنيور تانكو (Sénior tango ) ، اما اكبر شوارع بوينس آيرس هم شارع 9 de julio ، وأطول شوارعها شارع( Santa Fee )وشارع كورينتس (Avenida Corrientes ) وأغلي احياء بوينس إيريس حي La Recoleta وحي Palermo باليرمو وحي Alta Palermo.

  • دليل العنفوان
    الأحد 31 يوليوز 2016 - 21:39

    1 – بتشششششاخخخ

    آه عندما يتعلق الموضوع بالفن … !

    صدقت ايها الكريم وبالخصوص الفن الراقي

    وتحياتي

  • abdou
    الإثنين 1 غشت 2016 - 08:10

    تا واحد ما جا وقالينا لاواه الله إيرحمها أو إحاول إرد الإعتبار للعروبة ديالها ههههه.. شعب منافق غير متذوق للفن لا يتقبل الأخر ولا يبالي بثقافة الغير.. فكيف سيرتقي

صوت وصورة
نصومو مرتاحين | مشاكل الأسنان في رمضان
الأربعاء 27 مارس 2024 - 17:00

نصومو مرتاحين | مشاكل الأسنان في رمضان

صوت وصورة
البياض يكسو جبال مودج
الأربعاء 27 مارس 2024 - 12:15 1

البياض يكسو جبال مودج

صوت وصورة
مغاربة والتعادل مع موريتانيا
الأربعاء 27 مارس 2024 - 01:07 20

مغاربة والتعادل مع موريتانيا

صوت وصورة
المخارق والزيادة في الأجور
الأربعاء 27 مارس 2024 - 00:30 8

المخارق والزيادة في الأجور

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | انتخابات 2011
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | انتخابات 2011

صوت وصورة
قصة | الرجل الذهبي
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 21:30 3

قصة | الرجل الذهبي